العروج بالنبي إلى سدرة المنتهى

ثم بعد ذلك عرج به إلى سدرة المنتهى، ومن المعلوم أن السموات أبنية وسقف محفوظ كما قال الله، ولهذا دخل القائلون باستحالة وصول الإنسان إلى القمر من باب القرآن، فقالوا: قد ذكر الله بأن القمر في السموات فقال: {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا} [نوح:16] أي: في السموات، وقال جل وعلا: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا} [الأنبياء:32]، فقالوا: لا سبيل إلى القمر؛ لأن القمر في السموات، والله يقول عن السموات أنها سقف محفوظ، لكن الذين يقولون بوصول الإنسان إلى القمر من علماء الملة يجيبون عن هذا الإشكال بأن (في) هنا لا تعني بالضرورة أن تكون ظرفية، أي: يكون القمر داخل السموات، وليس هذا المقام مقام التفصيل، لكنني استطردت قليلاً.

ثم قابل صلى الله عليه وسلم في السماء الأولى: أباه آدم، وآدم هو أبو البشر، وقد نسبنا الله إليه فقال: {يَا بَنِي آدَمَ} [الأعراف:26]، وحول آدم أسودة عن يمينه وشماله، فمن كتب الله لهم الجنة ينظر إليهم فيبتسم، ومن كتب الله عليهم النار ينظر إليهم فيحزن ويبكي، وحق له ذلك فهو أبوهم، وكان الذي عرف آدم بمحمد، ومحمد بآدم هو جبريل عليه السلام، فقد استفتح قبل ذلك جبريل، فسأله الخازن: من أنت؟ قال: أنا جبريل، قال الخازن: أومعك أحد؟ قال: نعم، معي محمد، وقد فهم منها العلماء فائدة عظيمة وهي: أن الإنسان يجب عليه أن يستأذن إذا دخل على أصحاب دار ولو كان أفضل منهم؛ لأن جبريل ومحمداً عليهما السلام خير من خزنة السماء، ومع ذلك عرفا بأنفسهما، فقال: جبريل، ومعي محمد، وقد جاء الشرع بكراهة أن الإنسان إذا استأذن فسئل: من أنت؟ أن يقول: أنا، وليست كلمة أنا مكروهة لذاتها، إلا إذا خلت من التعريف، وبعض العامة اليوم يقول إذا تكلم عن نفسه: وأعوذ بالله من كلمة أنا، وهذا لا أصل له في الشرع، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه أنهم كانوا يقولون: أنا، فمن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام لـ أبي بكر وعمر لما خرجا وقد أخرجه الجوع، قال: (ما الذي أخرجكما؟ قالا: أخرجنا الجوع، قال: وأنا أخرجني الجوع) فتكره في الاستئذان إن لم تكن أعقبت بالتعريف، أما في الأمور العادية فإن الله نقمها من فرعون لما بعدها، وليس لذاتها، فإنه قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، ونقمها جل وعلا من إبليس لما قال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12]، فالإشكال عند إبليس وفرعون ما بعد كلمة أنا، ليس في لفظ كلمة أنا، إذاً ما تقوله العامة: وأعوذ بالله من كلمة أنا، ليس له دليل شرعي يعضده.

إذاً: استأذن جبريل ومحمد فلقيا آدم، ثم ارتقيا إلى السماء الثانية فوجدا ابني الخالة: يحيى بن زكريا، وعيسى بن مريم عليهما الصلاة والسلام، فيحيى بن زكريا وعيسى بن مريم كثيراً ما يقرن الله بينهما في القرآن كما ورد في سورة مريم، وهما ابني خالة؛ لأن زكريا زوج لخالة عيسى بن مريم، ولذلك كفل مريم عليه الصلاة والسلام، ثم انتقل للسماء الثالثة فوجد يوسف عليه الصلاة والسلام وقد أعطي شطر الحسن، وبينا مراراً في هذا الدرس المبارك وفي غيره من الدروس أن المقصود بأن يوسف أعطي شطر الحسن أي: شطر حسن آدم، فآدم أجمل خلق الله من بني آدم؛ لأن الله خلق آدم بيده، فيوسف عليه السلام على الشطر والنصف من جمال أبيه، ولقي في السماء الرابعة أخاه إدريس وتلا: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} [مريم:57]، وإدريس لما رحب بالنبي صلى الله عليه وسلم قال: مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح، ففهم منها العلماء: أن إدريس ليس من عمود نسبه صلوات الله وسلامه عليه، أي: أن إدريس ليس جداً للنبي عليه الصلاة والسلام، إذ لو كان جداً في عمود نسبه لقال: أهلاً بالابن الصالح، لكنه قال: أهلاً ومرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح، كما قال يوسف وكما قال عيسى بن مريم وكما قال يحيى، وكل هؤلاء ليسوا في عمود نسبه صلوات الله وسلامه عليه.

ثم أتى السماء الخامسة فوجد هارون بن عمران أخو موسى وأكبر منه سناً، وقد جاء في بعض الروايات أنه قال: (وجدت رجلاً تكاد تلامس لحيته سرته، قلت: من هذا يا جبريل؟! قال: هذا المحبب في قومه هارون بن عمران)، وقد كان هارون شخصية محبوبة جداً لبني إسرائيل، ثم في السماء السادسة قابل كليم الله وصفيه موسى بن عمران، ورحب به: (أهلاً بالأخ الصالح والنبي الصالح، وبكى -أي: موسى- فقيل له: ما يبكيك؟ قال: أبكي لأن غلاماً بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخل من أمتي)، وقد فهم منها العلماء: جواز الغبطة في الخير.

ثم أتى السماء السابعة فقال: (فوجدت رجلاً لم أجد أحداً أشبه بصاحبكم منه ولا منه بصاحبكم، وقد أسند ظهره إلى البيت المعمور، قلت: من هذا يا جبريل؟! قال: هذا أبوك إبراهيم)، وإبراهيم أب للنبي صلى الله عليه وسلم بالاتفاق، فرحب به قائلاً: (أهلاً بالابن الصالح والنبي الصالح)، وكل هذا الاحتفاء ليظهر الله لنا كرامة نبيه صلى الله عليه وسلم عنده.

ثم رأى البيت المعمور، وهو بيت في السماء السابعة، يقول العلماء -والعلم عند الله- إنه مواز للكعبة، وقد أقسم الله به في الطور، قال: {وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ * فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ * وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ} [الطور:1 - 4].

ثم إن الله جل وعلا قربه وأدناه وكلمه وناجاه، لكننا نجزم -وإن كان في المسألة خلاف- على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير ربه ليلة الإسراء والمعراج، وسيأتي معنا -إذا عدنا للآية- الدليل الظاهر على هذا، ثم إنه صلى الله عليه وسلم رجع فسأله موسى عن الصلوات فأخبره، فقال: ارجع إلى ربك فإن أمتك لن تطيق ذلك، وقد عالجت الناس قبلك، فما زال يتردد بين ربه وبين موسى، ثم قال عليه الصلاة والسلام لموسى: (إنني استحييت من ربي) فنادى مناد: أنني أمضيت فريضتي وأبقيت أجري، فأعطى الله هذه الأمة خمس صلوات في اليوم والليلة بأجر خمسين صلاة.

يقول العلماء: لقد اجتمع في النبي صلى الله عليه وسلم أمران: حياؤه من ربه، وشفقته على أمته، فاختار الحياء من ربه على الشفقة على الأمة، فأكرمه الله بأن أبقى له الحياء مع ربه، وأعطاه سؤله في الشفقة على أمته، وتحقق ما كان يقصده صلى الله عليه وسلم من شفقته على أمته.

ثم بعد ذلك عاد عليه الصلاة والسلام من ليلته إلى فراشه، وهذا مجمل ما ورد في السنة.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015