وقد ربط صلى الله عليه وسلم دابته في مربط كان الأنبياء قبله يربطون فيه دوابهم، وهذه الفائدة جاءت عند أبي نعيم في الحلية، إذ جاء فيها خبر أبي سفيان: أنه قدم على هرقل قبل إسلامه، فأخذ هرقل يسأله -وهو قيصر الروم- عن محمد صلى الله عليه وسلم، وأبو سفيان يحاول أن يجد ثغرة يبين فيها كذب النبي صلى الله عليه وسلم، لكنه كان دبلوماسياً جداً، فقد خاف أن يقول كذبة يكتشفها هرقل فلا يصدقه فيما سيقوله بعد ذلك من حديث، وهو في قلبه مغبون على أنه مضطر لأن يصدق، حتى جاء عند هذه النقطة، فقال أبو سفيان لـ هرقل: إنه زعم -أي: محمد- أنه جاء مسجدكم في إيليا في برهة من الليل فصلى وعاد.
لعله أن يجد بذلك تسفيهاً لرأي النبي صلى الله عليه وسلم عند هرقل، لكن الله يقول وقوله الحق: {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الفتح:4]، فقد أنطق الله البطريق الواقف على رأس هرقل فقال بعد أن ترجم الكلام لـ هرقل من قبل أبي سفيان: وإني لأعلم أي ليلة تلك، فتعجب هرقل والتفت إلى بطريقه وأعرض عن أبي سفيان، قال: وما يدريك؟ قال: إنه لما كنت في إحدى الليالي أعمل ما جرت العادة أن أعمله، أغلق أبواب المسجد، فعجزت عن باب من أبوابها أن يغلق، فاستعنت عليه بخدمي وعمالي ومن حضرني من أهل تلك الليلة فعجزوا، فبعثت إلى النجاجرة -أي: المعنيين بإصلاح الأبواب- فلما قدموا قالوا: إن هذا الباب سقط عليه شيء من النجاف والأبنية، فإذا أصبحنا رأينا أين علته، فدعوه إلى الصباح، يقول: فتركته، فلما أصبحت بدأت بالباب فإذا بالصخرة التي توضع عندها الدواب مثقوبة، وفيها أثر مربط الدابة، فقلت لأصحابي يومها -أي: صبيحتها-: إن الباب ما حبس الليلة إلا على نبي، يعني: أن الله جل وعلا منعنا أن نغلق الأبواب إكراماً لنبي، والبطريق وقتها لا يعرف أي نبي سيأتي في تلك الليلة، لكن العلم الذي عنده من الكتاب ومعالجته لبيت المقدس وللمسجد من سنين عديدة جعله يفقه هذا الأمر.
وفي هذا فوائد عظيمة جليلة من أهمها: أن الله رتب الأسباب على مسبباتها، فأنت تعلم -أيها المبارك- أن الله جل وعلا أسرى بنبيه في برهة من الليل من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، والله لا يعجزه شيء، ومن أكرم نبيه بهذا الإسراء قادر على أن يفتح له الباب ولو كان مغلقاً، لكن الله أعجز البطريق عن فتح الباب؛ حتى يصبح البطريق بعد ذلك شاهداً على دخول نبينا صلى الله عليه وسلم المسجد، وقد كان بالإمكان أن يغلق الباب فيأتي جبريل ويفتحه، لكن البطريق عجز عن الباب حتى يصبح فينظر في الباب، فإذا نظر في الباب رأى آثار النبي صلى الله عليه وسلم ودابته البراق، فيكون شاهداً على صدق قوله، فأصبح البطريق شاهداً عند قيصر على صدق نبينا صلى الله عليه وسلم.