وقد كان في العرب كان رجل يقال له عمرو بن لحي، قال صلى الله عليه وسلم عنه -كما عند مسلم في الصحيح-: (رأيت عمرو بن لحي أخا بني كعب يجر قصبه في النار)، أي: أمعاءه، فـ عمرو بن لحي كان مكياً، وعاش أيام ولاية خزاعة على مكة قبل قريش، وكانت لهم السيادة والإمرة، والعرب تقول: الناس على دين ملوكها، أي: على دين سادتها وعلى دين من لهم الشرف، فخرج عمرو إلى الشام فرآهم يعبدون الأصنام، ورأى عندهم عادات في الأنعام بنيت على ضلال، فنقلها عمرو بن لحي إلى مكة، فلما نقلها إلى مكة جاء إلى الناقة فبحرها، أي: جدع أنفها، فسميت بحيرة، ثم حرم لبنها، ثم جاء إلى الفحل من الإبل، فإذا كان قد طرق الأنثى مراراً وتكراراً حتى توالد منه الكثير حرم أكله وسماه حاميا، ثم جاء إلى بعض بهيمة الأنعام فسيبها وأطلقها ومنع الناس من أن يأكلوا منها، فسيب السوائب، وأتى بشرائع من عنده مزجها بحضارة من لقيهم من أهل الضلالة، ثم قننها وجعلها شرعاً، والتشريع والتحليل والتحريم لا يكون إلا لله، فهذا عين الشرك، قال الله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة:31]، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ عدي: (أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه ويحللون ما حرم الله فتحلونه؟! قال: نعم.
قال: فتلك عبادتهم).
فأقام عمرو حضارة في مكة على هذا المنوال، وتوارثها القرشيون عنه، فكانوا يأتون إلى الذكر من الإبل أحياناً فيحرمونه في مرحلة ويبيحونه في مرحلة، ويأتون إلى الأنثى ويصنعون معها مثل هذا الصنيع، ويقولون: (ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا) فهذه الشرائع التي سنوها جاء الشرع بإبطالها رغم أن سورة الأنعام سورة مكية، ولكن لما كان هذا الخطأ خطأ عقدياً لم يؤجل إلى العهد المدني، وإنما جاء التحريم في العهد المكي؛ لأن هذا داخل في العقائد، والنبي صلى الله عليه وسلم مكث ثلاثة عشر عاماً يبني العقيدة في مكة، وهذا حق، ومن العقيدة أنه لا أحد يملك التحريم والتحليل إلا إلا الله، وإذا فقه المؤمن هذا يفهم علة قول الله هذه الآيات، وبعض الناس يقول: أتعجب من إيرادها في سورة مكية لولا أنها قرآن، والعلماء يقولون لنا: إن السورة المكية تعنى بالعقائد.
والحق أن هذا من أعظم ما يتعلق بالعقائد؛ لأنهم شرعوا وحللوا وحرموا، وليس لهم ذلك.
فأراد الله بهذه الآية أن يبطل ما ذهبوا إليه، فجاءهم بما يسمى بالسبر ثم التقسيم، بمعنى أنه يُستقصى الموضوع ثم يبين بطلان كل شيء، فقال الله لهم جملة: إنه لا سبيل إلى صحة قولكم عقلاً ولا نقلاً.
أما النقل فأن يكون نبي من أنبيائي أخبركم بهذا التحريم، وهذا ما ذكره الله في قوله: {نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الأنعام:143]، وأنتم لا تؤمنون بخير الأنبياء، فكيف تؤمنون بأنبياء قبله؟! ولم يأتكم نبي يخبركم بهذا التشريع الذي اتبعتموه، فهذه واحدة.
والثانية أن تكونوا قد أخذتم هذا عن الله مشافهة، وهذا ذكره الله في قوله جل وعلا: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا} [الأنعام:144]، فإذا انتفت مسألة كون النبي واسطة بينكم وبين الله لم يبق إلا أنكم أخذتموه عن الله مشافهة، وهذا لم يقع، فانتفى بهذين الدليلين النقليين ما فعلتموه.
وبقي الدليل العقلي، وهو أن الله جل وعلا قال: إن الأنعام ثمانية أزواج، ثم فصلها فقال: من الضأن اثنين، ومن المعز اثنين، ومن البقر اثنين، ومن الإبل اثنين، فهذه الثمانية لم يحرم الله جل وعلا شيئاً منها.
ثم إن ما في البطون لا يخلو من أن يكون ذكراً وأنثى، ولم يحرم الله جل وعلا شيئاً منها، فإن حرمتم ذكراً وجب أن تحرموا جميع الذكران، وأنتم لا تحرمون جميع الذكران، فالذكر تارة تبيحونه وتارة تحرمونه، وإن حرمتم الأنثى -سواء أكانت في البطن أم خارج البطن- وجب أن تحرموا جميع الإناث؛ لأن الزوج لا يخلو من أن يكون ذكراً أو أنثى، وأنتم تحرمون نوعاً من الإناث وتدعون غيره، فانتفى بذلك كل دليل لهم على صحة ما ذهبوا إليه، فلم يبق إلا شيء واحد، وهو أنهم كذبوا على ربهم، وإذا كذبوا على ربهم أصبحوا ظلمة، والظلمة لا يفلحون، ولهذا ختم الله الآيتين بقوله: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:144].