ثم قال جل وعلا: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} [الأنعام:7].
إن الكفر ملة واحدة، ومما توارثه أهل الكفر العناد والاستكبار، وادعا أن ما يقوله الرسل سحر، كما أخبر الله تعالى عن قوم فرعون أنهم قالوا لموسى: {مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} [الأعراف:132].
فهذا الأمر توارثته الأجيال من عهد نوح، فكل قوم يقولون لرسولهم: {سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} [الذاريات:52].
فربنا جل وعلا يقول: إن العناد شيء متأصل، وليست القضية -أيها النبي- أنك لم تحسن عرض الدين عليهم، والدليل -والله يعلم ما سيكون- قوله تعالى: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ} [الأنعام:7].
والحواس خمس: البصر، والذوق، والسمع، والشم، واللمس، وأقوى الحواس الخمس اللمس؛ لأن الإنسان قد يعتريه ما يضعف قوة شمه، أو يطعم الماء الزلال مراً، أو يُسحر سحر تخييل، أو يلتبس عليه سماع الكلمات لأجل اللغط، فأقوى حواسه ما يلمسه؛ إذ يقل أن يدخل شيء يؤثر على حاسة اللمس، بخلاف الحواس الأخر.
فهنا ذكر الله أقوى الحواس، فقال: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ} [الأنعام:7].
ولم يقل جل وعلا فرأوه؛ إذ لو رأوه {لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} [الحجر:15]، ولكن قال: {فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} [الأنعام:7].
فذكر الله جل وعلا اللمس هنا ليثبت جل وعلا أن هؤلاء القوم تأصل العناد والاستكبار فيهم، فيقول تعالى: لو أنك -يا نبينا- أتيت بكتاب من عندنا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال اللذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين.
على أنه ينبغي أن يعلم أن اللمس في القرآن له معنيان: المعنى الأول: اللمس بظاهر البشرة، وهو اللمس المعروف.
والثاني: البحث، كما قال الله تعالى عن مؤمني الجن: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا} [الجن:8]، والجن لم تمس السماء، وقد قال تعالى: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا} [الأنبياء:32].
فالجن لم تلمس السماء، ولكنهم بحثوا في السماء فوجدوا أن السماء {مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا} [الجن:8].
والقرطاس اسم له نظائر، وهي الطرس والكاغد والورق، فالورق والطرس والكاغد بمعنى واحد، وهو ما يكتب عليه، فإذا كتب عليه سمي قرطاساً، فلا يسمى القرطاس قرطاساً إلا إذا كتب عليه.
وتسميته ورقاً وكاغداً وطرساً تسمية فصحى، فجاء الله جل وعلا هنا بأرفع الأربعة فقال: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ} [الأنعام:7].
أي: مكتوباً في قرطاس.
والقاف في (قرطاس) مثلثة، فيجوز فيها الثلاث الحركات، فتقول: قُرطاس، وقَرطاس، وقِرطاس، وأفصحها بالكسر؛ لأن القرآن جاء بها.
فاللغة فيها فصيح وأفصح، وتعرف الفصاحة بأسلوب القرآن، فاختيار القرآن هو الأفصح.