تفسير قوله تعالى: (هو الذي خلقكم من طين ثم أنتم تمترون)

الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد: فهذا اللقاء الثاني المخصص لسورة الأنعام: وكنا قد تحدثنا في اللقاء الأول عن فاتحة السورة، وهي قول الله جل وعلا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1].

فالآية الأولى هذه كانت تتحدث عن إثبات الألوهية، ثم انتقلت الآيات الآن إلى إثبات غرض آخر مما يتعلق بعقائد الناس وهو: البعث والنشور، قال الله جل وعلا: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ} [الأنعام:2].

وهذا انتقال إلى غرض آخر تريد السورة إثباته وإقامة الحجة به على أهل الإشراك وهو: البعث والنشور.

بقي في اللقاء الأول: أن نعرج على كلمة (يعدل)، وقد تحدثنا عنها تفصيلاً لكن ينبغي أن تعلم -أيها المبارك- أن كلمة (يعدل) بمعنى: يوازي ويماثل ويجعله نداً، فإذا كنا نتكلم عن مثيل من نفس الجنس فإنها تكسر فيقال: (عِدل)، ومنه قول مهلهل ربيعة يعير قاتلت أخاه كليباً: على أن ليس عدلاً من كليب أي: لا مثيل لـ كليب من جنسه.

أما إذا فتحنا العين وقلنا: (عدل)، فلا يقصد بها المثيل من الجنس، وإنما يقصد بها: الفدية، والله جل وعلا ذكر الصيد، وأنه محرم في حال الإحرام، ثم قال: {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} [المائدة:95] ففتح العين؛ لأن الصيام ليس من جنس الصيد، {وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} [البقرة:48] أي: ولا يؤخذ منها فدية.

ثم قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ} [الأنعام:2]، هنا يمتن الله جل وعلا عليهم وهو يحاورهم في قضية: إنكارهم للبعث والنشور، قال: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ} [الأنعام:2] نأن، والخلق في القرآن على ضربين: إما تذكير بخلق آدم، وهنا يقول: (خلقكم من طين)، أي: من تراب من صلصال، وأحياناً يتكلم عن الإنسان الناشئ عن أبيه آدم، فيتكلم الخلق عن ماء أو عن نطفة، فيأتي الله بذكر الخلق عن ماء أو عن نطفة.

لكن ما السر في قول الله تعالى هنا: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ} [الأنعام:2] نأن.

قلنا: إن الغاية من الآية: إثبات البعث والنشور، وأهل الإشراك يستبعدون إذا أصبحوا تراباً أن يبعثوا، فذكرهم ربهم تبارك وتعالى بأن أصل خلقهم من الطين، فهذا الطين أو التراب الذي تزعمون أننا نعجز أن نعيدكم منه نحن خلقناكم منه أصلاً، قال تعالى: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} [ق:15].

وقد حررنا في دروس مضت، وأيام خلت الكثير من قضايا البعث والنشور، مما لا حاجة إلى تكراره، لكن نؤكد هنا على قضية السر في إيراد كلمة (طين).

قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ} [الأنعام:2]، وقد مر معنا: أن آدم عليه السلام مر ثلاث مراحل: خلق من تراب، ثم مزج هذا التراب بالماء فأصبح طيناً، ثم ترك هذا الطين حتى يبس فأصبح فخاراً، وهي: المرحلة الفخارية، فهي ثلاث مراحل مر بها خلق أبينا آدم عليه السلام.

قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} [الأنعام:2]، هنا ذكر الله أجلين اختلف العلماء في تحديدهما، وجمهور أهل التفسير على أن الأجل الأول في الآية: هو الموت.

والأجل الثاني: هو المدة ما بين الموت إلى البعث والنشور.

وقال آخرون: إن المقصود بالأجل الأول: النوم.

والأجل الثاني: الموت.

وهذا القول حكاه ابن كثير وعقب عليه بقوله: وهذا قول غريب.

قال: (ثم قضى أجلاً) أكثر أهل التفسير: يرى أن (قضى) هنا بمعنى: قدر وحكم، واعترض الطاهر بن عاشور رحمة الله تعالى عليه في (التحليل والتنوير) على هذا المفهوم وقال: إن قضى هنا بمعنى: أنهى وأمات، وقوله وأدلته أظهر من قول من سبقه؛ لأن التقدير إن لم يكن مقترناً بالخلق فهو سابق عليه، والآية هنا لا تشعر بهذا؛ لأن الله قال: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا} [الأنعام:2].

فجعل التقدير -على اعتبار أن قضى بمعنى: قدر- متأخراً عن الخلق، وهذا غير مقبول، فما ذهب إليه ابن عاشور رحمة الله تعالى عليه أقرب إلى الصواب، فجعل قضى هنا بمعنى: أنهى، واستدل بإتيان مثل هذا في القرآن، قال الله جل وعلا: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ} [سبأ:14]، أي: أنهيناه بالموت، والمعنى هنا يستقيم مع الآية: {ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} [الأنعام:2]، و (عند) هنا: تفيد الحصر، والضمير عائد على ربنا جل وعلا، والمعنى: أن هذا الأجل الثاني لا يعلمه أحد، لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل.

مثاله: عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، صحابي جليل، كان سنه عند موته 63عاماً؛ وهذا لا يخفى على أحد، فكلنا نعرف بعد موت عمر أن أجله كان 63عاماً؛ فلهذا لم يقل الله في الأجل الأول: إنه عنده؛ لأنه أصبح ظاهراً للناس، لكننا لا نعلم أجله الثاني، من موته إلى قيام الساعة، فهذا أمر أخفاه الله عنا واستأثر بعلمه، وبهذا يتحرر معنى قوله سبحانه: {وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ} [الأنعام:2].

ثم انتقل الكلام من الغيبة إلى الخطاب، وهذا يسمى: التفافاً في الصناعة البلاغية، قال سبحانه: {ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ} [الأنعام:2]، لكن ينبغي أن تقيد أن قول الله جل وعلا: {ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ} [الأنعام:2] من الامتراء وهو: الشك، وليست من المماراة: وهي الجدال والمحاورة، والمعنى: أنكم مع خلقي لكم من طين، وجعلي الأجلين لكم، ما زلتم تشكون في مسألة البعث والنشور، وعدم الإيمان بالبعث والنشور من أعظم ما تلبس به أهل الإشراك: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا} [التغابن:7].

طور بواسطة نورين ميديا © 2015