تفسير قوله تعالى: (ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا)

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره، واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: فهذا لقاء من لقاءاتنا الموسومة بمحاسن التأويل، وهي تأملات في كلام ربنا رب العزة والجلال جل جلاله، وتذكيراً للإخوة الذين يكتبون معنا نبين ما يلي: كنا في اللقاء الماضي أو الذي قبله نتحدث في سورة الأحزاب، ثم انتقلنا إلى الحديث في سورة البقرة؛ حتى يتيسر لنا الحديث عن آيات الحج التي كنا قد توقفنا عندها في العام الماضي، ومن هذا اللقاء إن شاء الله تعالى إلى أن نختم القرآن سنمضي تدريجياً، أي: أننا وقفنا في اللقاء الماضي عند قول الله جل وعلا: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} [البقرة:204].

وتكلمنا عنها إجمالاً، ولم نفصل بسببين: الأول: ضيق الوقت، والثاني: أنها كانت مرتبطة بآيات الحج فعرجنا عليها بما يتناسب مع ما تبقى.

وأما الآن: فنفرد لها الحديث، ونستمر في الشرح إلى ما شاء الله، نسأل الله أن ييسر لنا أن نختم تفسير كتابه.

قال ربنا: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} [البقرة:204].

فيما مضى أيها المبارك مر تقسيم الناس إلى قسمين في الحج، فقال الله: {فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} [البقرة:200] فهذا قسم، ويقابله قسم آخر، يقول الله: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201]، فهذان القسمان كان الرب جل وعلا يتكلم عنهما حال كونهما في الحج، ثم إن الآيات التي ستأتي تتحدث عن قسمين آخرين عامين في الحج وفي غير الحج، بل إن الأصل أنهما في غير الحج، فقال ربنا: {وَمِنَ النَّاسِ} [البقرة:204] (من) هذه تبعيضية والمعنى: بعض الناس، {مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} [البقرة:204].

أكثر المفسرين على أنها نزلت في الأخنس بن شريق، فقد كان فصيحاً بليغاً يظهر الإيمان ويبطن النفاق، والصواب: أنها -أي: الآية- عامة في كل من هو مبطن كذب أو نفاق أو كفر أو حسد أو غل على أهل الإيمان، هذا الصواب.

يقول ربنا: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [البقرة:204] الإعجاب: هو استحسان الشيء والميل إليه مع التعظيم، وإذ لم يكن هناك شيء من التعظيم ولو يسير فلا يسمى هذا إعجاباً، {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ} [البقرة:204]، وهذا يعجبك قوله بسبب جرأته على الله، ومن جرأته على الله أنه يشهد الله على ما في قلبه وهو يعلم أن الله يطلع على غير الذي يقوله، فالذي يقوله شيء يستخدم فيه فصاحته وبلاغته ورونق كلامه، ومع ذلك حتى يقنعك يشهد الله على ما في قلبه، وهذه جرأة على الله؛ لأنه يعلم أن ما يقوله ليس هو الذي يبطنه، ثم يقول الله جل وعلا: {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} [البقرة:204] أي: شديد الخصومة، مع هذا الذي يظهره، وإذا قدر فإنه كما قال الله: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ} [البقرة:205].

وسنقف وقفة مع الفعل (سعى) وقفة لغوية في معانيه، قال ربنا: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ} [البقرة:205]، فحقيقة السعي المشي الحثيث، ومن هنا: سمي المشي بين الصفا والمروة سعياً؛ لأنه مشي حثيث، ثم إن الفعل (سعى) يستخدم في اللغة بحسب تعبير القرآن وتعبير اللغة في أمور عدة: منها ما يلي: يطلق السعي على كسب الإنسان وعمله، قال ربنا جل جلاله: {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا} [الإسراء:19] أي: قام بالعمل والكسب الذي يؤدي إلى الآخرة، {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا} [الإسراء:19]، وهذا دليل على أن السعي يكون بمعنى: الكسب والعمل.

كما يأتي السعي بمعنى الإصلاح بين الناس، ورفع الإضرار، قال عمرو بن كلثوم: وأنا منا الساعي كليب ومقصوده بالساعي كليب أن كليباً كان يسعى في الصلح بين الناس، ورفع الإضرار عنهم.

كما يأتي السعي بمعنى: العزم على تحصيل الشيء، ومنه قول الله جل وعلا في حق فرعون: {ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى} [النازعات:22] أي: يعزم على تحقيق مراده.

وهنا يقول الله تعالى عن هذا وأضرابه: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ} [البقرة:205] الحرث: هو الزرع، وسمي الحرث زرعاً لأنه بعد أن يحصد يحرث من جديد، والنسل يطلق على كل الأولاد سواء أولاد بني آدم، أو أولاد الحيوانات؛ لأنه ينسل من بطن أمه، والمقصود هنا: أولاد الحيوانات في المقام الأول؛ لارتباط أولاد الحيوانات بالحرث، ثم قال الله جل وعلا: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:205].

والقرآن في المقام الأول كتاب موعظة وهدى، فينبغي على المؤمن أن يتجنب الفساد؛ لأن الله لا يحبه، ومن الفساد في الأرض: سفك الدماء، ورفع السيف على المسلمين، أو إنشاء قنوات تبث الأذى والشرور، أو تبني التجارة بملابس ينجم عنها الخلق إذهاب القويم في الأمة، فهذه وأضرابها كلها تسمى فساداً في الأرض، والفساد لا يحبه الله، قال الله جل وعلا: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:205].

طور بواسطة نورين ميديا © 2015