انتهينا في بحث علو الهمة إلى الكلام على أن من خصائص عالي الهمة وكبيرها: صيانة النفس، وشرف النفس، ومعرفته بقدر نفسه، وذكرنا أنّ هناك بعض الفروق التي يلزم إيضاحها؛ لأنها قد تلتبس في هذا المقام على بعض الناس، فذكرنا الفرق بين شرف النفس والتيه، وقلنا: إن شرف النفس هو صيانتها عن الدنايا والرذائل والمطامع التي تقطع أعناق الرجال، فعالي الهمة يربى بنفسه عن أن يلقيها في ذلك، بخلاف التيه فإنه خلق يتولد من أمرين: إعجاب المرء بنفسه، وازدرائه بغيره، فيتولد من بين هذين الأمرين التيه، وأما شرف النفس فإنه يتولد من أمرين كريمين شريفين هما: إعزاز النفس وإكرامها، وتعظيم مالكها وسيدها، فهو عبد من عباد الله يرى أنه ينبغي أن ينزه نفسه عن اكتساب الذنب، فانتسابه إلى سيده يجعله يصون نفسه عن الوضاعة والخسة والدناءة، فيتولد بين هذين الخلقين شرف النفس وصيانتها.
والفرق بين صيانة النفس وبين التكبر دقيق، ويخفى على كثير من الناس، فالمتكبر شغله الشاغل في نظرته إلى الناس، ومحور حياته يدور حول نفسه فتراه يقول: فلان لم يحترمني، وفلان لم يعظمني، وفلان لم يلقبني، فكل حياته وكل علاقاته وكل مشاكله تنشأ بسبب أنه يحوم حول نفسه، ويدور حول نفسه، ونفسه هي الرحى في حياته، فهذا قد يلتبس على بعض الناس، ويظن أن هذا من صيانة النفس، وليس الأمر كذلك فهناك فرق كبير بين صيانة النفس وبين التكبر على خلق الله تبارك وتعالى، فالذي يصون نفسه مثله كمثل رجل لبس ثوباً جديداً نقي البياض نفيساً، فهو يدخل به على الملوك ونحوهم، فيصونه عن الوسخ والغبار وأنواع الآثار؛ حتى يبقي على بياضه ونقائه وصفائه، فلذلك تجده يتقزز ويهرب من المواضع والأماكن التي قد تلوث ثوبه، فلا يسمح بأي أثر أو لوث أن يعلو ثوبه، وإذا أصابه شيء من ذلك فإنه يبادر إلى قلعه وإزالته ومحوه وتطهير نفسه، وهكذا حال الشخص الذي يصون دينه وقلبه، فهو يجتنب الذنوب وآثارها، فإن لها في القلب طبوعاً وأثاراً أعظم من الطبوع الفاحشة في الثوب النقي البياض، ولكن على العيون غشاوة فلا تدرك تلك الطبوع، فالذي يصون نفسه يهرب من مظان التلوث، ويحترس من الخلق، ويتباعد من مخالطة الذين يلوثون قلبه، أو يعكرون إيمانه، أو يجذبونه إلى الأرض، فإنّ مخالطة من في دينه ضعف، وليس عنده ورع، ولا خوف، ولا حياء من الله سبحانه وتعالى؛ يخشى منها كما يخشى من مخالطة من يكون في ثيابه الدماء، أو الشحوم، أو غير ذلك من الأوساخ حتى لا يصيبه منها شيء، بخلاف صاحب الكبر، فإنه وإن شابه صاحب الهمة العالية في التحرز والتجنب، إلا أنه يقصد بذلك أن يعلو رقابهم، وأن يفتخر عليهم، وأن يجعلهم تحت قدمه، وأما هذا الذي يصون نفسه فإنه يتحرى الأشياء التي قد تلوث قلبه، فيتكرم ويتعزز عن أن يواقعها؛ كي لا تلوث قلبه وإيمانه.
إنّ الكبر أثر من آثار العجب والبغي، وينشأ في قلب قد امتلأ بالجهل والظلم، وترحلت منه العبودية، ونزل عليه المقت، فالمتكبر نظره إلى الناس شزر، ومشيه بينهم تبختر، ومعاملته لهم معاملة الاستئثار والأنانية لا معاملة الإيثار والإنصاف، ذهب بنفسه تيهاً، فلا يبدأ من لقيه بالسلام، وإن رد عليه رأى أنه قد بالغ عليه في الإنعام، لا ينطلق لهم وجهه، ولا يسعهم خلقه، ولا يرى لأحد عليه حقاً، ويرى حقوقه على الناس، ولا يرى فضلهم عليه، ويرى فضله عليهم، فلا يزداد من الله إلا بعداً، ولا يزداد من الناس إلا صغاراًً وبغضاً.