ومما يؤسف له أننا في هذا الزمان ما زلنا نجد كثيراً من الناس حينما يجلس بعضهم إلى بعض فيرون علائم الجد على رجل من الرجال يقولون له: ساعة وساعة، فأعط نفسك حظها، وإن لبدنك عليك حقاً.
فيستدلون بشطر من الحديث ويدعون حقوقاً أخرى.
والحقيقة أن الناس في هذا الزمان لا يحتاجون إلى تذكيرهم بحقوق الدنيا؛ لأنه لا يوجد أحد منهم يقصر في أمر الدنيا، وكل الناس مشتغلون بعلم الدنيا وبمال الدنيا وبزخارف الدنيا، وقل من يشتغل بأمر الآخرة، فعند الناس من الغفلة ما يكفيهم، والناس الآن في حاجة إلى من يزهدهم في الدنيا ويرغبهم في الآخرة، وهذا الكلام للإمام ابن الجوزي، وكان في عصر كانت فتنة الدنيا فيه أخف بكثير مما نقاسيه الآن.
فإن اعترض معترض على هذا المعنى فنأتيه بكلام الإمام الجليل ابن القيم رحمه الله تعالى، حيث يقول: لا بد من سمة الغفلة ورقاد الغفلة، ولكن كن خفيف النوم، ولا تتماد في الغفلة.
فالمراد تقليل الراحة إلى أدنى ما يكفي الجسم، كل حسب صحته وطاقته، خاصة أن المؤمن في هذا الزمان أشد حاجة للانتباه ومعالجة قلبه مما كان عليه المسلمون في العصور الماضية؛ لأن المسلمين فيما مضى كانوا يجدون على الخير أعواناً، وكانوا يعيشون في محيط إسلامي تسوده الفضائل، ويسوده التواصي بالحق، وكانت الرذائل والمعاصي تجهد نفسها في التستر والتواري عن أعين العلماء وسيوف الأمراء.
أما الآن فإن المدنية الحديثة جعلت كفر جميع مذاهب الكفار مسموعاً مبصراً، فجميع أنواع الكفر الآن تجوس خلال ديارنا، وتغزونا في عقر دارنا، وكل أنواع الملاهي والفساد والفسق والفجور تغزونا في عقر دارنا، ولا يكاد يخلو منها شبر من الأرض، فسهلت هذه المدنية الحديثة وصول هذه الضلالات كلها عبر الإذاعات والتلفزة والصحف، وجعلت إلقاءات جميع أجناس الشياطين قريبة من القلوب، وصار سهلاً جداً أن يتبع الإنسان كل أنواع الضلال وكل أنواع التمويه والإفساد، فقلبه يسمم ما بين وقت وآخر، ويكفي ما يحصل بصورة أو بأخرى من الطعن في شرائع الإسلام، كأن توصف قوانين الشرائع الإسلامية بأنها قوانين قاسية، أو صارمة، أو وحشية، والعياذ بالله، وما أكثر الملاحدة أصحاب دعوى حقوق الإنسان الذين يتكلمون بين وقت وآخر في الطعن في الإسلام من خلال استغلال الأحداث! كما حصل قبل فترة في إعدام أربعة من الأتراك هربوا المخدرات إلى السعودية، وإذا بنا نسمع أصحاب حقوق الإنسان يتصارخون، ويرون أن هذه قسوة، ومن خلال ذلك يطعنون في إقامة حدود الله سبحانه وتعالى، ويزعمون أنها تنافي ما يزعمونه من مبادئ حقوق الإنسان التي ضيعت! في هذا الزمان إذا هلك داعية من الدعاة الواقفين على أبواب النار يدعون الناس إليها يمتدحونه بأنه ثبت على مبدئه إلى النهاية، مثل تلك المرأة التي وقفت حياتها على حرب الدعوة، وشتم الحجاب ووصفه بأنه كفن ككفن الموتى، وهي الآن -ولله الحمد- قد كفنت وتنقبت -رغم أنفها- بنقاب لا تخلعه إلى أن يأذن الله، فالعجب أنهم يمتدحون الذين وصفهم الرسول عليه الصلاة والسلام بأنهم دعاة على أبواب جهنم من أجابهم قذفوه فيها! فيمتدحون هؤلاء وينفخون فيهم كأنهم الأبطال، وكأنهم المجددون الذين يريدون الخير لهذه الأمة، فكل المعايير وكل القيم انقلبت بسبب الغزو الفكري وسهولة تسربه إلى قلوب المؤمنين، فلا شك في أنه ينبغي علينا أن نكون أعيناً منتبهة ومبصرة لما يأتينا من سهام الفتن التي تكاثرت علينا، وصدق القائل: تكاثرت الظباء على خراش فلا يدري خراش ما يصيد فهذه الوسائل كلها جعلت إلقاءات جميع إخوان الشياطين بكل أنواعهم قريبة من القلوب، وبذلك زاد احتمال تأثر المؤمن من حيث لا يريد ولا يشعر بهذا المسموع أو المنظور، فضلاً عن ارتفاع حكم الإسلام عن الأرض الإسلامية التي يعيش فيها، فوجب عليه شيء من المجاهدة والمراقبة لقلبه أكثر مما كان يجب على السلف الصالح؛ لأن البيئة حول السلف الصالح كانت كلها تؤزهم على الخير أزاً، والباطل منقمع ومهزوم ومنكسر، أما الآن فالحال لا يخفى علينا.
وما أصدق تصوير إمام تركيا بديع الزمان سعيد النورسي رحمه الله تعالى حين بسط هذه الحقيقة وجلاها قائلاً: إن هذه المدنية السفيهة المصيرة للأرض كقرية واحدة يتعارف أهلها ويتناجون بالإثم وما لا يعني بالجرائد صباحاً ومساءً غلظ بسببها وتكاثف بملاذها حجاب الغفلة، بحيث لا يخرق إلا بصرف همة عظيمة.
فالإنسان لا يستطيع أن يخرج من أسر هذا التأثير الإعلامي وتأثير السموم من كل مكان إلا بهمة عظيمة كالقوة التي يحتاج إليها الصاروخ كي يتحرر من جاذبية الأرض، فلا بد من قوة دافعة له أقوى من الجاذبية حتى يتحرر منها، ونحن كلما زاد الثقل علينا نحتاج إلى قوة دافعة أقوى كي نتحرر من هذه الضغوط، وليس ذلك إلا بقوة الإرادة أو الهمة كما بينا من قبل، يقول الشاعر: وانتبه من رقدة الـ ـغفلة فالعمر قليل واطرح سوف وحتى فهما داء دخيل