كبار الهمم فئة نادرة في الناس، وهم الذين تصلح بهم أمم وتحيا همم، فعالي الهمة لا يرضى بالدون، ولا يرضى بما دون الجنة؛ إذ إن الهمة لا تزال تترقى به حتى يطمح إلى أعلى مراتب الجنة، وهو الفردوس الأعلى من الجنة، وما ذلك إلا لأن الدنيا جيفة، وعالي الهمة لا يرضى بالجيف، كما أن الأسد لا يرضى بالجيفة.
وقد ذكرنا أنه ليس في علو الهمة إفراط.
ثم أجبنا عن
Q لماذا لا يوصف الكافر بعلو الهمة؟! وقلنا: لأن الكافر يريد الدنيا، أو يريد الآخرة من غير طريق محمد صلى الله عليه وسلم، بحيث يئول به الأمر في النهاية إلى الخسار والبوار والخلود في النيران، فمن ثم لا يستحق كافر أبداً أن يشرف بوصف كبر الهمة.
وحديثنا هنا -إن شاء الله تعالى- سيكون في بيان همة السلف الصالح الذين كانوا خير أمة أخرجت للناس، فقد استخفوا بأعراض الدنيا لأنهم فقهوا الحقائق، فكبير الهمة على الإطلاق لا يرضى بالهمم الحيوانية، ولا يكون عبداً لبطنه وفرجه، بل يجتهد في أن يتمسك بمكارم الشريعة، فيصير من أولياء الله وخلفائه في الدنيا ومن مجاوريه في الآخرة.
وكبير الهمة صغرت الدنيا في عينيه، فيكون خارجاً عن سلطان بطنه، فلا يشتهي ما لا يجد، ولا يكثر إذا وجد، ويكون خارجاً عن سلطان فرجه، فلا يتعدى حدود الله.
ولما فقه سلفنا عن الله عز وجل أمره، وتدبروا حقيقة الدنيا ومصيرهم إلى الآخرة؛ استوحشوا من زخرفها، وتدبروا حقيقتها، فمالت قلوبهم عن زينتها، وارتفعت هممهم فوق سفاسفها، وجعلوا الهموم هماً واحداً، هو إرضاء الله عز وجل ومجاورته في دار كرامته.
إن لله عباداً فطنا طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا نظروا فيها فلما علموا أنها ليست لحي وطنا جعلوها لجة واتخذوا صالح الأعمال فيها سفنا.
وحرصوا على إزاحة كل ما قد يعوقهم عن المضي قدماً نحو غايتهم، فلم يستووا مع سائر الناس؛ لأنهم انشغلوا بمعالي الأمور وتنزهوا عن سفاسفها، فكان لهم معايير يختلفون فيها عن سائر الناس، مثال ذلك ما قاله الحافظ أبو الحسن علي بن أحمد الزيدي مخاطباً كبيري الهمة في أنهم ليسوا كالناس، وأن اشتغالهم بمعالي الأمور يجعل لهم معايير تخالف ما لسائر الناس من المعايير، فيقول رحمه الله: اجعلوا النوافل كالفرائض، والمعاصي كالكفر، والشهوات كالسم، ومخالطة الناس كالنار، والغذاء كالدواء.
وقال عبد القادر الجيلاني لغلامه: يا غلام! لا يكن همك ما تأكل وما تشرب وما تلبس وما تنكح وما تسكن وما تجمع، كل هذا هم النفس والطبع، فأين هم القلب؟! همك ما أهمك، فليكن همك ربك عز وجل وما عنده.
ولما هم الإمام الجليل الليث بن سعد رحمه الله تعالى بفعل مفضول مباح لكنه ينافي العزيمة قال له إمام المدينة يحيى بن سعيد الأنصاري رحمه الله تعالى: لا تفعل؛ فإنك إمام ينظر إليك.
وقال الإمام المحقق ابن القيم رحمه الله تعالى: وقال لي يوماً شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه في شيء من المباح: هذا ينافي المراتب العالية، وإن لم يكن تركه شرطاً في النجاة.
أو نحو هذا من الكلام.
ورحل يحيى بن يحيى إلى الإمام مالك وهو صغير، وسمع منه وتفقه مع صغر سنه، وكان مالك يعجبه سمته وعقله.
وروي عنه أنه كان يوماً عند مالك في جملة من أصحابه، إذ أتى رجل وصرخ فيهم فقال: حضر الفيل.
فخرج أصحاب مالك لينظروا إليه؛ فإنهم لم يروه من قبل، فانصرفوا عن الدرس ما عدا هذا الصغير يحيى بن يحيى، فقال له مالك: لم لم تخرج فترى الفيل وهو لا يكون بالأندلس؟ يعني أنت من الأندلس، وليس فيها فيل، فلماذا لم تخرج مع أصحابك لتنظر إلى شكل الفيل؟! فقال له يحيى: إنما جئت من بلدي لأنظر إليك وأتعلم من هديك وعلمك، ولم أجئ لأنظر إلى الفيل.
فأعجب به مالك، وسماه عاقل أهل الأندلس! فلا شك في أن مشاهدة حيوان غريب كالفيل لم يره الإنسان من قبل من المباح، لكن أمثال هؤلاء الناس الذين حلقت هممهم في طلب معالي الأمور يجدون وقتهم أضيق من أن يشتغلوا بشيء من المباح، خاصة إذا كان لا يجني المرء من ورائه شيئاً لقضيته التي تشغله ليل نهار.
ولما فر عبد الرحمن الداخل من العباسيين وتوجه تلقاء الأندلس أهديت إليه جارية جميلة، فرمى إليها بصره وقال: إن هذه من القلب والعين بمكان، وإن أنا اشتغلت عنها بهمتي فيما أطلبه ظلمتها.
يعني: همتي مشغولة في طلب معالي الأمور، فإن اشتغلت عنها بسبب همتي العالية فسوف أظلمها وأضيع حقها، وإن اشتغلت بها عما أطلبه ظلمت همتي، ولا حاجة لي بها الآن، وردها على صاحبها! فكبيرو الهمة ليسوا كسائر الناس في انشغالهم بفضول المباحات من الأكل أو الشراب أو المنكح أو الملبس أو غير ذلك؛ لأنهم يرون في ذلك نوعاً من الغفلة، ولذلك قال عمر رضي الله عنه: الراحة للرجال غفلة.
وقال أمير المؤمنين في الحديث شعبة بن الحجاج رحمه الله تعالى: لا تقعدوا فراغاً؛ فإن الموت يطلبكم.
وسأل رجل ابن الجوزي: أيجوز أن أفسح لنفسي في مباح الملاهي؟ فقال: عند نفسك من الغفلة ما يكفيها.