فكيف يكون عالي الهمة من أمكنه أن يكون في مقعد صدق عند مليك مقتدر، فتقوم الملائكة في خدمته، وتدخل عليه من كل باب فتقول له: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:24] فإذا به يتنكب طريق الإيمان، ويتمرغ في وحل الكفر والفسوق والعصيان، ويأبى إلا أن يكون حطباً للنيران، هل يمكن بعد ذلك أن نصف الكافر بأنه عالي الهمة، وهو يبذل نفسه وماله وولده في سبيل صد الناس عن سبيل الله؟ قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء:167]، وقال أيضاً: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ العَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ} [النحل:88].
وكيف يكون عالي الهمة من فطره الله على التوحيد، فأفسد فطرته، وآتاه نعمة العقل فعطلها، وبث له آيات توحيده ودلائل صدق رسوله صلى الله عليه وسلم في الآفاق وفي نفسه، وأنزل الله كتابه المعجز، فأعرض عن ذلك كله ولم يرفع به رأساً، وجعل الدنيا أكبر همه ومبلغ علمه؟ يقول تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنطِقُونَ} [النمل:83 - 85].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يبغض كل جعظري جواظ، صخاب بالأسواق، جيفة بالليل حمار بالنهار، عالم بأمر الدنيا، جاهل بأمر الآخرة) رواه ابن حبان في صحيحه.
قوله: (إن الله يبغض)، أي: يكره.
قوله: (كل جعظري) هو الفظ الغليظ المتكبر، وقيل: هو الذي يتشبع بما ليس عنده.
قوله: (جواظ) هو الجموع المنوع، وقيل: الكثير اللحم والمختال في مشيته.
قوله: (صخاب) السخب بالسين أو الصاد بمعنى واحد وهو الصياح، فالسخاب هو كثير الضجيج والخصام، وفي صفة المنافقين: (خشب بالليل سخب بالنهار)، يعني: إذا جن عليهم الليل سقطوا نياماً كأنهم خشب، وإذا أصبحوا تساخبوا وتصايحوا على الدنيا شحاً وحرصاً.
قوله: (جيفة بالليل) يعني: هو كالجيفة؛ لأنه يعمل طول النهار كالحمار من أجل دنياه، وينام طول الليل كالجيفة التي لا تتحرك ولا يذكر الله.
هذه كلها صفات السافل الهمة، سواء من فسقة المسلمين أو من الكفار أجمعين بلا استثناء.
فما أشد انطباق هذا الحديث على هؤلاء الكفار الذين لا يهتمون بآخرتهم، مع علمهم بأمور دنياهم وفرحهم بما عندهم منها، كما قال تعالى فيهم: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7]، وهذه الآية في الحقيقة تحتاج كلاماً كثيراً جداً؛ لأننا نقع الآن في مشكلة ونعاني عناءً شديداً بسبب هذا الأمر، وهو أننا لا نتعامل إلا مع ظاهر هذه العلوم الحديثة فقط كحال الكفار، ولا نحاول أن ننفذ إلى الأعماق وإلى المعاني التي وراءها؛ لأن هذه العلوم وهذه الاكتشافات ما هي إلا أمارات على التوحيد، كما يقول الشاعر: تأمل سطور الكائنات فإنها من الملأ الأعلى إليك رسائل وقد خط فيها لو تأملت خطها ألا كل شيء ما خلا الله باطل من الذي سن هذه السنن وأودعها في الكائنات؟ من الذي يحفظ علينا هذا البحر القريب من أن يغرقنا؟ من الذي ينزل لنا الماء من السماء كي نحيا؟ من الذي يأتينا بالسمع؟ ومن الذي يعطينا كذا وكذا من النعم؟ من الذي قام بحوله وقوته على توجيه أجسامنا وإجراء العمليات الوظيفية أو الحيوية التي تجري فيها ليل نهار ونحن ليس عندنا بها خبر؟ وما خفي من علم الله كان أعظم، ومع ذلك يرفض العلم الملحد الذي يتقاتل الناس عليه تعظيماً له أن نذكر اسم الله.
لو أنك في بحث علمي استدللت بنص ديني لقالوا: هذه خرافات أو هذه شعوذة، أو إنك بهذا قد خرجت عن نطاق البحث العلمي، حتى إن الخبيث طه حسين انخدع بكلام هؤلاء الكفار، وقال في بعض المناسبات: فليحدثنا القرآن ما شاء عن إبراهيم وإسماعيل، ولتحدثنا التوراة ما شاءت عن إبراهيم وإسماعيل، لكن ورود هذين الاسمين في هذين الكتابين لا يكفي لإثبات حقيقتهما التاريخية! هذا كما علمه أسياده الفرنسيون.
أيضاً في مناهج فصول التعليم حذفوا كل عبارة فيها ذكر الله، وهذا يعرفه الطلبة والمدرسون جيداً، فإذا قارنت النسخ القديمة والحديثة لاحظت ذلك، كان في النسخ القديمة: أن الله الخالق سبحانه وتعالى، وغير ذلك مما فيه ذكر الله، أما الآن حذفت هذه العبارات بالمنقاش، ونزعوا كل ما فيه ذكر الله، حتى يخرجوا من أصلابنا أجيالاً ملحدة تكره الله وتكره الرسول وتنبذ دين الإسلام، فحتى مثل هذه العبارات نزعوها من المناهج، واستبدلوا ذكر الله بقولهم: الطبيعة أعطت الكائنات كذا وكذا، الطبيعة فعلت كذا وكذا، فالطبيعة ما هي الطبيعة؟ أهي خالقة أم مخلوقة؟ الطبيعة فعيلة بمعنى مفعول، من الذي طبعها؟ إنه الله سبحانه وتعالى، إذا كانت الطبيعة صماء بكماء خرساء عمياء، فكيف تكون الطبيعة الجامدة هي التي أعطت هذه الحياة؟! فإن فاقد الشيء لا يعطيه، وهذا في الحقيقة جحود ونكران لله سبحانه وتعالى الذي هو خالق الوجود كله.
فتجد هذا العلم يسمى علماً وهو في الحقيقة جهل، كما قال بعض الدعاة: كنا فيما مضى نعاني من جاهلية الجهل، والآن نحن نعيش تحت ظل جاهلية العلم، فتجد كل العلوم تفصل عن صانعها سبحانه وتعالى، وتحصل الإشادة والتفخيم والتعظيم والتكريم للذين اكتشفوها، ما مقدار فضل من اكتشف بالنسبة إلى فضل من صنع.
ولله المثل الأعلى لو أن مخترعاً اخترع آلة في غاية التعقيد ووضعها في صندوق وأقفل عليه بقفل مثلاً، ثم بعد ذلك استطاع رجل أن يفتح هذا القفل ويرى هذه الآلة، فإذا به يقول: إنها كذا ومركبة من كذا وتعمل بالطريقة الفلانية، ونستطيع أن نستفيد منها في كذا، هل يكون له الفضل وينسى ويجحد فضل الذي صنعها؟ نحن البشر الآن بهذه الصحة التي أعطانا الله سبحانه وتعالى، كم من آلاف العمليات المعقدة تجري في جسمك وأنت لاه ساه غافل عنها، من الذي يجري هذه العمليات في جسمك سواء كنت في حالة النوم أو اليقظة أو الحركة أو السكون؟ من الذي يدق قلبك؟ من الذي يحفظ عليك بصرك؟ فكل حرف من حروف علوم الطب يشهد أن لا إله إلا الله، وكل شيء في علوم الفيزياء وعلوم البحار تسبح بحمد الله سبحانه وتعالى، وهي في الحقيقة ما أودعها الله إلا كي تكون ترجمة لما أخبرنا به: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ} [فصلت:53] كل هذه علامات توحيد تماماً كالقرآن الكريم {نُورٌ عَلَى نُورٍ} [النور:35].
فالذي أودع هذه السنن والقوانين هو الذي خلق هذا الإنسان، فالإنسان الجاحد الجاهل يستر جهله تحت اسم العلم، وأصبح العلم أن تقطع صلة هذه الحقائق العظمى بالله سبحانه وتعالى، وإذا جاء واحد وتكلم في موضوع الوسوسة مثلاً وقال: إن هذه الوسوسة تكون من الشيطان، قالوا له: هذه خزعبلات، وإذا أتى بنص ديني في بحث علمي قالوا: قد خرجت عن المنهج العلمي، فصار المنهج العلمي عندهم أن يتبرأ من الدين، ولا يذكر فيه الدين، الموضوع في الحقيقة موضوع مؤلم جداً، وهو ذو شجون، وموضوع حيوي في غاية الحيوية، إنه موضوع علمنة هذه العلوم التي هي أصلاً خادمة لقضية التوحيد، ومع ذلك تفصل تماماً عن التوحيد، ويستنكفون ويستكبرون عن أن يذكروا اسم الله سبحانه وتعالى في هذه العلوم.
فهؤلاء الكفار وصفهم تعالى بهذا الوصف الذي نحن الآن نحرص على أن نتسابق عليه: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7]، وقال سبحانه وتعالى: {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} [النجم:29 - 30] هذا هو حجمهم، فهم يجتهدون في العلم لأمور دنياهم، وهم كالبهائم، قال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف:179]، فالحمار أو البقرة أو الجاموس إذا وقفت أمامه وتلوت عليه السبع المعلقات يسمعك لكن لا يفقه منها شيئاً، وهكذا الكفار، فآيات الله سبحانه وتعالى التي تنكشف في هذا العصر على أيديهم أضعاف أضعاف ما ينكشف للمسلمين؛ لتقدمهم في هذه العلوم، فيطلعون على آيات الله التي فيها ما يبهر العقول وينطقها بالتوحيد؛ ولكن لوجود الأقفال على قلوبهم لا يعون ما يرون من آيات الله سبحانه وتعالى.
إذاً: قوله: {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} [النجم:29 - 30]، أي: أنهم لو فقهوا أن هذه الدنيا تدل على الآخرة ولا تستحق أن يجردوا غرضهم لأجلها، لما اقتصروا على تعظيم علم الدنيا، لكنهم يجتهدون في العلم بأمور دنياهم، ويمعنون في تحصيلها، مع جهلهم التام بأشرف العلوم وهي علوم الآخرة، التي هي شرف لازم لا يزول دائم لا يمل، فجدير بمن يستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير أن يبغضه الله ويمقته لشقاوته.
فالله سبحانه وتعالى كرمهم بنعمة العقل، وميزهم بها على العجماوات، فسخروها أعظم تسخير في كل شيء من أغراض الدنيا الخسيسة، كالتألق في الشهوات والمأكل والملبس والترفه، إلا الشيء الذي خلقوا من أجله وهو عبادة الله وحده لا شريك له، واتباع رسله عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام.
ولهذا