وكانت لـ ابن سحنون سرية فطلب منها ذات يوم أن تعد له طعاماً، وشغل بالتأليف والرد على المخالفين، وأحضرت الطعام، وبعد طول انتظار أخذت تطعمه؛ لأنها انتظرت مدة كبيرة والطعام أعدته وهو لا يريد أن يأكل؛ لأنه انشغل بالعلم الذي يدرسه، فأخذت تلقمه حتى أتى على الطعام دون أن يشعر، يعني: أنه كان يشتغل بالعلم ويأكل لأنها تضع اللقمة في فمه، وتمادى في عمله حتى الفجر، ثم سألها أن تحضر الطعام، فأخبرته بأنه أتى عليه دون أن يشعر.
وذكر السبكي في طبقات الشافعية عن أبيه الإمام تقي الدين أنه كان من الاشتغال بطلب العلم على جانب عظيم، بحيث يستغرق غالب ليله وجميع نهاره، وكان يخرج من البيت لصلاة الصبح فيشتغل على المشايخ إلى أن يعود قريب الظهر، فيجد أهل البيت قد عملوا له فروجاً فيأكله، ويعود إلى الاشتغال إلى المغرب، فيأكل شيئاً حلواً لطيفاً، ثم يشتغل بالليل وهكذا لا يعرف غير ذلك، حتى ذكر لي أن والده قال لأمه: هذا الشاب ما يطلب قط درهماً ولا شيئاً، ما أحفظ له مرة طلب فيها مالاً أو طعاماً أو شيئاً من هذا، فقال أبو الإمام تقي الدين السبكي لأمه: هذا الشاب لا يطلب قط درهماً ولا شيئاً، فلعله يريد شيئاً، يعني: أن يأكله، فضعي في منديله درهماً أو درهمين، لعله إذا مر في الطريق اشتهى شيئاً فوجد في جيبه ما يشتري به هذا الشيء، فوضعت نصف درهم، قالت الجدة: فاستمر نحو جمعتين وهو يعود والمنديل معه والنصف فيه، إلى أن رمى به وقال: إيش أعمل بهذا؟! خذوه عني، فبقي نصف الدرهم في منديله أسبوعين كاملين؛ لأنه لا يلتفت إليه ولا أنفقه، ثم بعد ذلك قال هذه الكلمة: إيش أعمل بهذا؟ خذوه عني وألقاه.
وكان الإمام ابن مالك النحوي صاحب الألفية وغيرها كثير المطالعة، سريع المراجعة، لا يكتب شيئاً من محفوظه حتى يراجعه في محله، ولا يرى إلا وهو يصلي أو يتلو أو يصنف أو يقرأ.
حكي أن الإمام ابن مالك توجه يوماً مع أصحابه للفرجة بدمشق، ودمشق فيها البساتين والغوطة، فلما بلغوا الموضع الذي أرادوا تنقلوا هم وتفرقوا في المكان، فغفلوا عنه فطلبوه فلم يجدوه، ثم فحصوا عنه فوجدوه منكباً على أوراقه، وفي هذا يصدق قول الشاعر: قلب يطل على أفكاره ويد تمضي الأمور ونفس لهوها التعب والشيخ أحمد بن علي نجم الدين بن الرفعة كان كثير الصدقة، مكباً على الاشتغال حتى عرض له وجع المفاصل، بحيث كان الثوب إذا لمس جسمه آلمه، ومع ذلك كان لا يرى إلا ومعه كتاب ينظر إليه، وربما انكب على وجهه وهو يطالع، يعني: أنه يأتيه النوم فينام على الورق، فيكون وجهه على الورق من شدة النوم، قال: وهذا الشيخ هو الذي قال فيه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى بعد مناظرة جرت بينهما: رأيت شيخاً تتقاطر فروع الشافعية من لحيته، يعني: كأن كل جسمه مشبع بفقه تفاصيل فروع الشافعية، فكأنها تسقط من غزارتها، كالشخص الذي يبلل لحيته بالماء فإن الماء يتساقط منها، فيقول الإمام ابن تيمية فيه: رأيت شيخاً تتقاطر فروع الشافعية من لحيته.
وقال الأسنوي عنه: ما أخرجت مصر بعد ابن الحداد أفقه منه.
ومما يروى أن أميراً في الشام أدر على الحسن بن الهيثم مالاً كثيراً، والحسن بن الهيثم هو صاحب علم البصريات المعروف، فهذا الأمير أعطاه مالاً كثيراًَ فقال له: يكفيني قوت يومي، وتكفيني جارية وخادم، فما زاد على قوت يومي، إن أمسكته كنت خازنك، وإن أنفقته كنت قهرمانك ووكيلك، وإذا اشتغلت بهذين الأمرين فمن الذي يشتغل بأمري وعلمي؟