من أسباب الارتقاء بالهمة: الاجتهاد في حصر الذهن وتركيز الفكر في معالي الأمور، فالإنسان عليه أن يركز، وهذا السبب هو صدى للسبب الآنف الذكر وهو توحيد الإرادة، يعني: إرادة هم الآخرة بلا منافس؛ لأن الدنيا والآخرة ضرتان، إذا أرضيت إحداهما أسخطت الأخرى.
فمن أسباب الارتقاء بالهمة خاصة في المقاصد العلمية: نظرية حصر الذهن والتركيز تماماً فيما تريد أن تنجزه من الأمور، فالإنسان إذا لم يبادر بأن يشغل نفسه بالحق فإنها تشغله بالباطل، كما قال الحسن: نفسك إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل.
فلا بد أن تكون النفس مشغولة، وإن لم تبادر أنت بشغلها بالحق فإنها تتفرق بك في أودية الدنيا.
سئل كثير بن عبيد الحمصي عن سبب عدم سهوه في الصلاة قط، مع أنه أمَّ الناس في حمص حوالى ستين سنة كاملة في الصلوات الخمس، ولم يسه في صلاته قط، فسئل عن سبب هذا فقال: ما دخلت من باب المسجد قط وفي نفسي غير الله.
وهذه هي ثمرة من ثمرات حصر الذهن في مطلب واحد، وإرادة واحدة وهي إرادة الآخرة وإرادة الله سبحانه وتعالى، فالتركيز بلا شك يثمر هذه النتائج العظيمة.
وقد رأينا مظاهر عجيبة للسلف الصالح رحمهم الله تعالى في موضوع التركيز في طلب الآخرة، فلم يشتتوا همتهم في الدنيا، فهذا الخليل بن أحمد الفراهيدي صاحب العربية ومنشئ علم العروض، كان إماماً مفرط الذكاء، والإمام الخليل بن أحمد بقدر ما هو صاحب الشهرة المعروفة في اللغة العربية والعروض، وقد يتصور أن هذه العلوم يكون عند أصحابها جفاء مثلاً، لكنه كان من العباد ومن الزاهدين ومن الخيرين، وقد دعا الله سبحانه وتعالى أن يرزقه علماً لم يسبق إليه، ففتح الله عليه باب العروض، وهو علم أوزان الشعر والقوافي، وقيل: كان يعرف علم الإيقاع والنغم، ففتح له ذلك علم العروض، وقيل: مر بالصفارين -جمع صفار، وهو الذي يقطع النحاس الجيد- فأخذ علم العروض من وقع مطرقة على طست، يعني: كان رجلاً يضرب بالمطرقة على طست من النحاس بطريقة منتظمة، فرأى أن نفس هذه الإيقاعات المنتظمة موجودة في أبيات الشعر عند العرب، وبالتالي استطاع أن يستخرج العروض عن طريق الالتفات لهذا الإيقاع المنتظم الذي سمعه، وقد كان متقشفاً متعبداً قال النضر بن شميل: أقام الخليل في خص له بالبصرة، يعني: في بيت من خشب أو بيت من شجر أو من قصب، قال: أقام الخليل في خص له بالبصرة ولا يقدر على فلسين، وتلامذته يكسبون بعلمه الأموال، وكان كثيراً ما ينشد: وإذا افتقرت إلى الذخائر لم تجد ذخراً يكون كصالح الأعمال فهو معدود من زهاد العالم القلائل، فرحمه الله تعالى، وكان يقول: إني أغلق علي بابي فما يجاوزه همي، فكان الخليل بن أحمد يخرج من منزله واهتمامه بشيء محدد، هو طلب الآخرة، فكان ينشغل جداً وتجد شدة تركيز ذهنه في مقصد واحد وهو طلب الآخرة، فكان يخرج من المنزل ولا يشعر بنفسه إلا وهو في الصحراء، ولم يرد الصحراء وإنما شغله الفكر الذي هو فيه والاستغراق، حتى خرج إلى ما لا يقصده من الأماكن؛ لشدة استغراقه في أمر محدد، فيذهل عما عداه.
وكان يدخل الداخل إلى أبي تمام الشاعر وهو يعمل الشعر، فلا يشعر به.
وقد حكى ابن العلامة القرآني العلامة الجليل الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى أنه كانت تحصل مواقف محرجة لوالده العلامة الشنقيطي رحمه الله حيث إنه كان إذا شرع في مدارسة العلم فإنه يذهل تماماًًً عن كل ما حوله، حتى كان يدخل عليه الضيوف من الكبراء أو الأمراء فلا يلتفت إليهم؛ لشدة انشغاله وحصر ذهنه تماماً فيما هو مقبل عليه من طلب العلم، ويضطر ابنه أو أحد الحاضرين أن ينبهه إلى وجود هذا القادم كيلا يظن أنه أهمل الترحيب بهذا القادم، وما هذا إلا ثمرة من ثمرات حصر الذهن، والتركيز الشديد في هدف ومطلب واحد.
وحصر الذهن مما يكتسب بالمران، يعني: أنه يحتاج إلى نوع من التمرين حتى ينتقل الإنسان من الشرود وتشتت الذهن إلى حصر الذهن حصراً بيناً محكماً، فلا بد من جهد ملح، والتدريب عليه يكون بأن تحدد موضوعاً محدداً فتدرسه أو تفكر فيه، وترد عقلك إليه مرة بعد مرة بعد مرة، وتتعمد أن تعود بعقلك وذهنك وتحصره في هذا الموضوع حتى ولو خمسين أو مائة مرة من أجل هذا الموضوع الذي التزمت معالجته، فهذه الخواطر التي تتنازعك لا تلبث أن تخلي مكانها للموضوع، يعني: أن الخواطر الأخرى تشرد بذهنك بعيداً؛ لكن حين تتدرب على ذلك باستمرار فإنها تذهب بعيداً وتتلاشى، وتضطر أن تنسحب هي لتترك الموضوع الذي يلح عليك له اليد العليا والسيادة والسيطرة على ذهنك، ليس فقط في اليقظة، بل من الناس من إذا انشغل بحفظ القرآن الكريم في يقظته فإنه إذا نام يشتغل أيضاً بمراجعته في الليل وكأنه ما زال في اليقظة من شدة حصر الذهن في هذا الأمر.