من أسباب انحطاط الهمم: إهدار الوقت الثمين في الزيارات والسمر وفضول المباحات، قال صلى الله عليه وسلم: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ).
فالإنسان قد يعطى الصحة لكن لا يعطى الفراغ بسبب شغله في الدنيا، وهذا كحال أغلب الناس الذين وصفهم النبي عليه الصلاة والسلام بقوله: (إن الله يبغض كل جعظري جواظ صخاب بالأسواق، جيفة بالليل، حمار بالنهار، عالم بأمر الدنيا، جاهل بأمر الآخرة).
والشاهد منه قوله: (جيفة بالليل، حمار بالنهار)، وكلمة (حمار) المقصود منها: بيان أنه يكدح كما يكدح الحمار، ويتحمل المشقة والتعب، وأصبح يضرب به المثل فيقال: فلان يعمل مثل الحمار.
يعني: أنه يعمل عملاً شاقاً جداً، ويداوم ويصبر عليه، فإذا أتى الليل لا يذكر الله سبحانه وتعالى، فهو جثة ملقاة بالليل، حمار بالنهار في طلب الدنيا؛ لأن عنده نعمة الصحة، فبعض الناس يؤتى الصحة التي يقتحم بها أسوار الدنيا، لكن ليس عنده وقت للآخرة؛ فهو مشغول دائماً في الدنيا.
وهناك أناس آخرين حرموا نعمة الصحة وعندهم وقت، مثل: إنسان مريض؛ فالمريض مرضاً مزمناً أو شديداً لا يمكنه من فعل أي شيء مفيد عنده الوقت؛ إذ لا شيء يشغله، لأنه مريض ملازم للفراش، لكنه فقد الصحة.
فأتم وأكمل ما يكون الأمر للإنسان إذا منَّ الله سبحانه وتعالى عليه بهذين الأمرين: صحة مع فراغ، فإذا استثمرهما في طاعة الله سبحانه وتعالى، وسخر الصحة والفراغ في طاعة الله وفي المقاصد الخيرية فهذا أعظم نعمة على العبد.
لكن المؤلم أن أكثر الناس في غفلة عن نعمة الله العظيمة، بل بعضهم حينما يجمع الله له هاتين النعمتين -الصحة والفراغ- يدمر الصحة بالمخدرات وبالسجائر والتدخين وبغير ذلك، ويقتل الوقت أو يقتل نفسه على الأحرى بالجلوس في المقاهي.
وتقريباً ظاهرة المقاهي غير موجودة إلا في بعض البلاد، كما في بلادنا حيث ترى الناس في المقاهي، وكأنه ما بقي أحد جالس في بيته، فالمقاهي عامرة، ولا حول ولا قوة إلا بالله! والمساجد حالها كما تعلمون شيء مؤلم، وإذا قلت له: ماذا تفعل؟ يقول لك: أقتل الوقت! أنت تقتل نفسك، وتنتحر، فالنعمة هذه وكل لحظة محسوبة عليك؛ فالله سبحانه وتعالى أبلغ في الإعذار، وأعطاك كل فرصة ممكنة، وأنت الذي كفرت بها وضيعتها، فمعك العقل، ومعك الوحي الإلهي من القرآن والسنة يرشدك إلى كيفية استثمار الوقت، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة - النخلة الصغيرة - فإذا استطاع ألا تقوم حتى يغرسها فليغرسها).
فهذا الحديث يعلمنا كيف نغتنم ونستثمر الوقت، فإذا منَّ الله سبحانه وتعالى عليك بنعمة الصحة مع نعمة الفراغ فلا تكن من أكثر الناس الذين هم محرومون من استثمار هذه النعمة، ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ)، والغبن: يحدث عندما تملك سلعة وتريد أن تبيعها، فتبيعها بأقل من سعرها، أو إذا كنت ستشتري تشتري بأكثر من سعرها، هذا هو الغبن؛ فأنت تغبن نفسك عندما تأتي الفرصة وتضيعها، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا استيقظ من النوم حمد الله على هذه النعمة، أي: نعمة أن الروح ترد إلى صاحبها عند الاستيقاظ، ولذلك شبه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بالنشور فقال: (الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور)، فهذه النعمة العظيمة هي أن الله سبحانه وتعالى مد في عمرك، وأعطاك فرصة جديدة اليوم؛ لعلك تتوب لعلك تستقيم على طاعته لعلك تنوي المزيد من أفعال الخير، وكان عليه الصلاة والسلام يقول: (الحمد لله الذي رد علي روحي، وعافاني في جسدي، وأذن لي بذكره)، أي: أعطاني فرصة أن أذكر الله.
ولذلك جاء أن ثلاثة شبان من بني عذرة أتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فاستضافهم أبو طلحة، فدعا داعي الجهاد، فخرج واحد منهم إلى الجهاد، فقتل في سبيل الله، ثم بعد فترة دعا داعي الجهاد، فخرج الثاني وقتل في سبيل الله، إلا الثالث مات على فراشه ولم يخرج إلى الجهاد كصاحبيه، ثم رآهم أبو طلحة في المنام، فرأى ترتيبهم فرأى أن آخر واحد مات على فراشه هو أعلاهم درجة، يليه الثاني، ويليه الأول الذي مات أولاً في الجهاد، فتعجب من ذلك، وحكا الرؤيا للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: (وما يعجبك من ذلك؟ إنه ليس أحد أفضل من مؤمن يعمر في الإسلام بالتسبيح والتهليل والتكبير)، أي: كيف تستغرب هذا؟ فهذا شيء طبيعي؛ إنه ليس أحد أفضل من مسلم يعمر في الإسلام؛ لأن عمره يزيد والطاعات تزيد، أما من كان عمره يزيد ويزيد شقاه ومعاصيه فمعناه: أن طول عمره مصيبة عليه، لكن العبرة حين يطول العمر وتكثر الأعمال الصالحة؛ لأن هذا يستكمل هذه النعمة؛ فلذلك قال عليه الصلاة والسلام: (إنه ليس أحد أفضل عند الله من مؤمن أو مسلم يعمر في الإسلام بالتسبيح والتكبير والتهليل).
فكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم شرح له الموقف، وقال له: إن الشهيد الثاني عاش وبقى فترة بعد الأول عمرها بالصلاة والذكر والتسبيح وقراءة القرآن وكذا، وبعد ذلك عاش الثالث؛ رغم أنه مات على فراشه، لكنه استطاع بالذكر وبقراءة القرآن وبالصلاة وبالعبادة أن يسبق الشهيدين مع أنه مات على فراشه، فهذه نعمة عظيمة جداً.
والظاهر أن هذا هو مضمون رسالة إبراهيم عليه السلام من السماء؛ فإن إبراهيم عليه السلام أرسل لنا لكنا وكل مسلم على وجه الأرض منذ زمن النبي عليه الصلاة والسلام إلى أن تقوم الساعة، فكل واحد منا يتذكر ذلك، وكأنما جاءته رسالة باسمه من إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وذلك حينما قال للرسول صلى الله عليه وسلم في رحلة المعراج: (يا محمد! أقرئ أمتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء، وأنها قيعان، وأن غراسها: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر)، أو كما قال عليه الصلاة والسلام، والحديث صحيح.
فهذه الرسالة من إبراهيم عليه السلام يبين فيها أن الجنة قيعان، وأنه كلما قال العبد: سبحان الله وبحمده، تغرس له نخلة في الجنة، وإذا قرأ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] عشر مرات يبنى له قصر في الجنة، فأي حسرة يتحسرها الإنسان بعد الموت على هذه الفرص التي ضيعها وجعلها هباءً منثوراً؛ لذلك قال عليه الصلاة والسلام: (لا يتحسر أهل الجنة على شيء إلا على ساعة مرت بهم لم يذكروا الله تعالى فيها)، يعني: أن الجنة دار منزهة عن النصب والتحسر والألم إلا من شيء واحد فقط يتحسر عليه أهل الجنة، وهو أنهم حينما يرون النعيم الذي هم فيه يتحسرون على لحظة من الزمن مرت بهم في الدنيا لم يذكروا الله عز وجل فيها.
فلاشك أنه لا يضيع هذه النعمة إلا مغبون، والإنسان إذا كان عنده رأس مال ويتجر به فإذا ربح فهذا هو الفوز، وإذا استرد رأس المال فهذه فائدة أيضاً، وإذا رأس المال نفسه هلك وضاع، فلا ربح ولا رأس مال وإنما خسران مبين، فعلى هذه الخسارة يتحسر هذا الإنسان.
وبعض العلماء قال: تعلمت تفسير سورة العصر من بائع ثلج.
وسورة العصر فيها قسم بالعصر والوقت والدهر والزمن، قال عز وجل: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر:1 - 2]، يعني: أن كل الناس في خسر، ثم استثنى قلة قليلة فقال: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:3]، فهؤلاء فقط هم الذين ينزهون من الخسران، ولماذا الإنسان في خسر؟
صلى الله عليه وسلم لأنه إذا لم يستثمر نعمة الوقت والصحة في هذه الأشياء الأربعة: ((آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ))، فإنه يخسر رأس ماله.
وهي خسارة ما بعدها خسارة.
قال: رأيت هذا الرجل بائع الثلج -وقبل لم تكن هناك ثلاجات ولا مجمدات بحيث يحفظ فيها الثلج- فالسوق انفض، وصلى الناس صلاة العصر، فبقيت عنده بعض ألواح من الثلج التي هي رأس ماله لم يبعها، وقارب العصر على الخروج، فالرجل كان يسير في الطرقات كالمجنون، يحمل الثلج ويقول للناس: ارحموا من يذوب رأس ماله! ارحموا من يذوب رأس ماله! لأن رأس ماله ماء متجمد، فإذا ذاب لم يبق معه رأس مال، فكذلك نفس الشيء؛ رأس مالك أنت هو الوقت، فإذا ضيعت الوقت فأنت تخسر رأس المال، فمن ثمَّ وصف الله الإنسان المضيع وقته بالخسران فقال: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر:1 - 2].
بين تبارك وتعالى في هذه الإشارة العظيمة في الحلف والقسم بالعصر أن العصر -الذي هو الزمن والوقت- نعمة عظيمة فلا تضيعوها؛ فهي نعمة شريفة، ولذلك أنا أقسم بها وأقول: {وَالْعَصْرِ} [العصر:1]، أقسم بها أنها نعمة شريفة، والسيئ ليس الزمان، إنما السيئ أفعالكم أنتم، كما قال الشاعر: نعيب زماننا والعيب فينا وما لزماننا عيب سوانا ونهجوا ذا الزمان بغير ذنب ولو نطق الزمان لنا هجانا فليس هناك حاجة اسمها زمن أسود، وإنما أعمالنا نحن هي التي تسيئ إلينا.
الشاهد من الكلام: أن هذا الحديث يشير إلى هاتين النعمتين: الصحة والفراغ، فإذا أعطيت قدراً من الصحة والفراغ فاستثمر هاتين النعمتين بأقصى ما تستطيع.
يقول الشاعر: والوقت أنفس ما عنيت بحفظه وأراه أسهل ما عليك يضيع