عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن لكل عمل شرة، ولكل شرة فترة، فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى، ومن كانت إلى غير ذلك فقد هلك).
وقوله: (إن لكل عمل شرة)، يعني: نشاط وقوة، وقوله: (ولكل شرة فترة)، أي: ضعف وفتور، يعني: أن هذه هي طبيعة النفس البشرية، فهي تبدأ بهمة وبحمية، ثم بعد وقت يصيبها نوع من الفتور والملل.
ومن الطبيعي أن الإنسان لا يستطيع أن يلزم نفسه الجد بصورة مستمرة، والفترة والفتور أمر لابد منه، لكن على أن يكون إلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فمثلاً: يقف الإنسان بالسيارة في محطة البنزين لبضع دقائق، وهذا نوع من الفتور والضعف أو الراحة أو التوقف من أجل أن يزودها بوقود، ومثل هذه الاستراحة تزود الإنسان بطاقة؛ حتى يستطيع أن يستمر بعد ذلك، فمعنى ذلك: أنه لا يتخذ محطة البنزين مستقراً، ولا يذهب ليأتي بالعفش والسرير والمطبخ والأكل والأواني ويضعها في محطة البنزين ليتخذها مقراً ومسكناً له؛ لأن هذا الشيء لا يعقل، لكن هذا ما نفعله نحن بالفعل، فمحطة الراحة لأجل التزود -كمحطة البنزين بالضبط- نتخذها وطناً، وما يكون في حياتنا إلا اللهو واللعب والكرة، ولا يكاد يوجد مظهر من مظاهر الجد في حياتنا.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن لكل عمل شرة ولكل شرة فترة)، يعني: فترة قليلة، وبعد ذلك يعاود الجهد، (فمن كانت فترته إلى سنتي)، أي: تبعني في الفترة كما تبعني في الشرة فقد اهتدى، (ومن كانت إلى غير ذلك فقد هلك).
وليس هذا مثل من يقول: ساعة لربك، وساعة لقلبك، ويقصد: القلب المريض، يقولها لك إذا نهيته عن المعاصي والمحرمات، وإطلاق البصر، والأغاني، أو أي شيء من المنكرات، حيث يقول: ساعة لربك، وساعة لقلبك! يعني: ساعة لقلبك المريض أو ساعة لشيطانك، وهذه قسمة كما قال عز وجل: {تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى} [النجم:22].
فالمسلم مطالب بطاعة الله سبحانه وتعالى في كل أحواله، ومطالب باحترام شرع الله في جميع عاداته، ومطالب باحترام الشرع في حالة الهزل والجد.
عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يا أيها الناس! خذوا من الأعمال ما تطيقون؛ فإن الله لا يمل حتى تملوا، وإن أحب الأعمال إلى الله ما دام وإن قل) متفق عليه، ويقول الشاعر: لكل إلى شأو العلى حركات ولكن عزيز في الرجال ثبات ومعنى هذا: أن الواحد ممكن أن يفهم ويسمع مثل هذا الكلام على ذوي الهمة في عبادة الله تعالى، ويسمع الأسباب في النهوض بالهمة فتتحرك همته إلى أنه يفعل مثل هؤلاء الخيرين الأخيار، وتقريباً أن كل من يسمع عن هذا تتحرك همته إلى الاقتداء بهم، لكن ليس كل الناس يثبتون، بل ترتفع الهمة عند هذا ثم لا تلبث أن تعود من جديد، وتأملوا ذلك في مناسبات كثيرة، فمثلاً: شهر رمضان، تجد في أول يوم من رمضان المساجد مكتظة في الصلوات الخمس؛ لأن رمضان أتى، وكل إنسان يريد أن يتوب ويستقيم ويصلح حاله مع الله سبحانه وتعالى، فالهمة موجودة، حتى في عوام الناس، فيقبلون إقبالاً شديداً جداً، ثم انظر إلى الانحدار الذي يحصل في أيامه البواقي، فمع مضي أيام الشهر يبدأ الناس يتقلصون رويداً رويداً، حتى يعود أهل المسجد العاديون هم الذين يعمرون المسجد من قبل كما كانوا عليه، وقس على ذلك أحوالاً كثيرة جداً.
وهكذا في طلب العلم وحفظ القرآن؛ حيث إن الطالب يبدأ في حفظ القرآن بنشاط، ثم لا يلبث أن يتراخى، فمن رأى أن الله سبحانه وتعالى وفقه إلى الثبات في طاعة بدأها واستمر فيها فهذا من فضل الله عليه الذي حرم منه الكثيرون، فلذلك عبر الشاعر عن هذا المعنى أدق تعبير، فالعبرة بأن تثبت، وإلا فأغلب الناس يفترون ويملون، ولا يواصلون، ومن ثمَّ قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما: (لا تكن مثل فلان؛ كان يقوم الليل فترك قيام الليل)، يعني: أنه فتر عن قيام الليل، فانظر إلى طاقتك الجسمية وظروف العمل والوقت وغير ذلك، وانظر ما هو الذي يدخل في طاقتك من الأوراد ومن قراءة القرآن ومن التعبد واجعله على قدر طاقتك بلا مبالغة، واستمر عليه، فمثلاً: لا تقم كل الليل ثم بعد ذلك تترك قيام الليل تماماً؛ لأن مثل هذا لن يؤثر في القلب ولن يعالج قسوة القلب، بل الذي يعالج القلب هو العمل المداوم عليه حتى ولو كان قليلاً، فمثلاً: لو أن معك برميلاً من الماء، وصببته مرة واحدة على صخرة، فإنه لن يؤثر فيها على الإطلاق، لكن لو أن نفس الكمية من الماء سقطت على هذه الصخرة الصماء قطرة قطرة فإنها ستحدث فيها حفيرة، وهكذا نفس الشيء المقصود من العبادة: علاج القلب وترقيقه وإحياؤه، وهذا لا يحصل إلا بالمداومة، حتى لو كانت جرعات قليلة في علاج أي مرض فإنها تؤثر.
فالإنسان لو أراد أن يتعاطى -مثلاً- مضاداً حيوياً فإنه لا يأخذ الشريط كله، ولا يقول: حتى أستعجل الشفاء فسأبلع الشريط كله؛ لأن هذا يسبب تسمماً، فسنة الله سبحانه وتعالى في العلاج أنه يكون رويداً رويداً، فعلى العبد أن يراعي سنن الله سبحانه وتعالى بالمداومة في كل الأمور، حتى في أذكار النوم، فلا يأت من يقول: أنا سأقول كل أذكار النوم كل ليلة، ثم إذا به لا يواظب عليها، وينام بعد ذلك ويهجرها.
لكن لو أنه قسم أذكار النوم إذا كانت خمسة عشر أو ثمانية عشر ذكراً وقال: اليوم الأول أقول ثلاثة أو أربعة، واليوم الثاني أقول أربعة، والذي يليه أربعة، وهكذا بطريقة دورية، فإنه مع الوقت يأتي بها كلها، وفي نفس الوقت لا يهجرها كلها، وإنما يهجر بعضها إلى حين، ثم يعود، والثواب الأكثر يكون للأكثر، لكن الأوسط أبسط وأجدر أن يداوم عليه صاحبه ويستمر، وقد كان أحب العمل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما داوم عليه صاحبه، وكان إذا عمل عملاً أثبته وداوم عليه صلى الله عليه وسلم.
وتجد في بعض الأحاديث إشارة إلى هذا، كقوله عليه الصلاة والسلام: (من صلى في يومه وليلته اثنتي عشرة ركعة دخل الجنة)، يعني: من واظب ولم ينقطع، ولم يصبه الفتور والملل.