هذا فيما يتعلق بالجزء الأول من الوهن الذي سبب انحطاط الهمم، وهو حب الدنيا، أما القسم الثاني فهو كما وصفه النبي عليه الصلاة والسلام فقال: (وكراهية الموت)، فإذا أحب عبد الدنيا فلابد أن يكره الموت؛ لأنه إذا أحب الدنيا عمرها، وإذا عمرها خرب الآخرة، لأنهما ضرتان؛ إذا أرضيت إحداهما أسخطت الأخرى، فإذا أحب الدنيا واثاقل إليها ورضي بها دون الآخرة فسيخرب الآخرة، وبالتالي يكره الموت الذي سينقله إلى الدار الآخرة.
فثمرة حب الدنيا كراهية الموت، وكراهية الموت أيضاً ثمرة الحرص على متاع الدنيا مع تخريب الآخرة، فيكره أن ينتقل من العمران إلى الخراب.
قال الطبراني مبيناً أثر حب السلامة في الانحطاط بالهمة: حب السلامة يثني عزم صاحبه عن المعالي، ويغري المرء بالكسل، إن حب الدنيا وكراهية الموت صنوان لا يفترقان، وإن الهمة العالية لا تسكن القلب الجبان، وتأمل حال خفيف الهمة الذي أورثته التربية الفاسدة حرصاً على حياة، كما قال تعالى في شأن اليهود لعنهم الله: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} [البقرة:96].
ولذلك تحداهم القرآن الكريم، وهذه من آيات إعجاز القرآن الكريم؛ لأنهم ما قبلوا التحدي حينما تحداهم أن: {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:94]؛ لأن الإنسان إذا كان صادقاً ومع الحق فكيف يخاف من الموت؟ قال عز وجل: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} [البقرة:95]، فالكفار وسائر اليهود لا يمكن أن يتمنوا الموت أبداً؛ ولذلك قال الله سبحانه وتعالى: {لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحشر:14].
ونحن لا ننسى خط برليف، وكيف أنهم صنعوا هذا الخط ليجسد معنى هذه الآية: ((لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ))، فنحن نجد دائماً أن المسلم إذا هجم بنفسه على يهودي لا يثبت أمامه اليهودي حتى لو كانت معه أسلحة أقوى منه، فالمسلم مستعد أن يلتهمه حتى بأسنانه وأظافره، ولذلك لا يقوون أبداً على المواجهة بدون هذه الأسلحة وهذه الجدر.
فخفيف الهمة هو الذي أورثته التربية الفاسدة حرصاً على أي حياة ولو كانت ذليلة، قال عز وجل عن هذا وعن أمثاله: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} [البقرة:96]، ونكر سبحانه وتعالى كلمة ((حَيَاةٍ)) إشارة إلى أنهم يرضون بالحياة ولو كانت أي حياة، فيريد أن يعيش ولو ذليلاً، المهم أن يكون حياً؛ لأنه قد غرست فيه تربية حب السلامة في مواطن الجرأة والإقدام والمخاطرة.
انظر إلى هذا الرجل من خسيسي الهمة كيف يخبر أن زوجته هنداً تشجعه على الخروج إلى الجهاد أو للقتال أو للدفاع عن العرض والقبيلة والعشيرة أو الدين أو غير ذلك؛ حيث كانت زوجته أشجع منه؛ لأنها هي التي تشجعه وتحرضه على الخروج، وهو يرد عليها فيقول: أضحت تشجعني هند فقلت لها إن الشجاعة مقرون بها العطب أي: أن الشجاعة هذه تؤدي إلى المهلكة؛ فإن الشجاعة معناها: أنني قد أموت، قال: أضحت تشجعني هند فقلت لها إن الشجاعة مقرون بها العطب لا والذي حجت الأنصار كعبته ما يشتهي الموت عندي من له أرب للحرب قوم أضل الله سعيهم إذا دعتهم إلى حوماتها وثبوا ولست منهم ولا أهوى فعالهم لا القتل يعجبني منهم ولا السلب ويقول آخر: يقول لي الأمير بغير جرم تقدم حين حل بنا المراس فما لي إن أطعتك في حياة ولا لي غير هذا الرأس راس أي: ليس عندي رأس ثانية، فإذا طارت هذه في الحرب فبماذا أعيش؟! فأين هذان الجبانان من قول الشاعر: إذا أراد الغزو لم تثن عزمه حصان عليها نظم در يزينها نهته فلما لم تر النهي عاقه بكت فبكى مما شجاها قطينها يصور موقف آخر بالعكس من رجل خرج خارج للجهاد فزوجته ظلت تثنيه عن الخروج وتقول له: إلى من تتركنا؟ فإذا أراد الغزو لم تثن عزمه حصان عليها نظم در يزينها أي: متزينة بالدر.
نهته فلما لم ترى النهي عاقه أي: ما أثر فيه النهي.
بكت فبكى مما شجاها قطينها أي: من حولها من الحشم والخدم والأتباع بكوا لبكائها.
بل أين هذا الجبان من قول زهير بن أبي سلمى -وهو شاعر جاهلي-: وليس لمن لم يركب الهول بغية وليس لرحل حطه الله حامل بل نقول: أين هذا الذي يقول هذا الكلام من ذلك العبد الصالح الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله أشعث رأسه مغبرة قدماه كلما سمع هيعة استوى على متنه، يطلب الموت والقتل مظانة)، إلى آخر الحديث، رواه أحمد ومسلم وابن ماجة.
هذا فيما يتعلق بالسبب الأول من أسباب انحطاط الهمة وهو الوهن، والوهن لا يفسر بغير ما فسره به رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: (حب الدنيا وكراهية الموت).