إن أعظم أسباب هذا المرض الخطير: الوهن، والوهن كما فسره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث: (يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، قلنا: أمن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟! قال: بل أنتم يومئذٍ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله المهابة من قلوب عدوكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن، قالوا: وما الوهن؟ قال: حب الدنيا، وكراهية الموت)، أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
أي: أن الأمم تجعل أمة الإسلام وليمة يأكلونها، ويأخذون ثرواتها، ويذبحون أبناءها، فهذه الوليمة صار يتداعى إليها أعداء الإسلام، سواء كان في حرب الخليج الأولى أو الثانية، أو في البوسنة والهرسك، أو فلسطين، أو غيرها من المواقع، ففي حرب الخليج قال وزير خارجية بريطانيا: نريد نصيبنا من الكيكة أو من الترتة! بلا استحياء! وهذا تجسيد لما أخبر به الصادق المصدوق صلى الله عليه وآله وسلم.
وقد بين عليه الصلاة والسلام أن الأمر ليس بسبب قلة العدد؛ فأنتم يومئذ كثير، لكنكم كالغثاء، وهو: الزبد الذي يكون فوق السيل، ويدفعه السيل أمامه في مجراه من الغثاء والرغاوة والكناسة وهذه الأشياء.
قال عليه الصلاة والسلام: (وليقذفن الله في قلوبكم الوهن، قيل: وما الوهن يا رسول الله؟! قال: حب الدنيا وكراهية الموت)، هذا هو السبب في الحقيقة، أما حب الدنيا فأنت إذا تأملت أي خطيئة ترتكب في الوجود فستجد أن سببها هو حب الدنيا بكل ما تحتمله كلمة دنيا من معانٍ؛ لأن الإنسان إذا أحب الدنيا فإن ذلك يؤدي به إلى أن يتثاقل إلى الأرض، ولا يستطيع أن يرتقي إلى السماء؛ فيكون ثقيلاً منجذباً إلى الأرض، كما قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة:38]، أي: خفوا إلى الجهاد {اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ} [التوبة:38].
إذاً: حب الدنيا هو سبب التثاقل إلى الأرض، وكذلك ما من عبد تأسره الشهوات إلا والسبب في هذه الشهوات هي الدنيا أيضاً، وكذلك الانغماس في الترف، فإذا الإنسان عمر في الدنيا، وأغرق في الترف بهذه الصورة فهل سيفكر بعد ذلك في الموت؟! وهل سيفكر في الآخرة؟! فهو يعمر الدنيا، ويخرب الآخرة، فمن الطبيعي أن يكره الانتقال من العمار إلى الخراب؛ لأنه خرب الآخرة، فبذلك يميل إلى حب الدنيا، ويتشبث بها.
وكذلك حب الدنيا هو الذي يؤدي بالناس إلى التنافس في دار الغرور، فهم يتنافسون على أمور الدنيا بما يوجد الحسد والحقد والبغضاء والحروب والصراعات.
يقول الشاعر مبيناً أن الرجال يقتل بعضهم بعضاً في سبيل حب الدنيا: تفانى الرجال على حبها وما يحصلون على طائل قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى: واعلم أن زمن الابتلاء ضيف ِقراه الصبر.
يعني: أن البلاء الذي تعيشه في الدنيا مهما طال فهو فترة مؤقتة، فزمن البلاء هذا ضيف طارئ سيمكث عندك فترة قليلة جداً؛ لأن العمر مهما طال فسيمضي، وسينتهي، وستصبح أنت في خبر كان، وسوف تفضي إلى ما قدمت بين يديك، فلو فرضنا أن إنساناً عمره مائة سنة -وقل من يعيش مائة سنة الآن- فإن مصيره الموت، كما قال موسى لملك الموت عليهما السلام: (ثم ماذا؟ قال: الموت، قال: فالآن).
فالإنسان حينما يكون موجوداً في عمق الصورة لا يحسن التفكير المتجرد، لكن إذا تدبر نفسه وتصور أنه منفصل عن تأثير هذه الصورة فإنه يعطي الحكم بدقة، نحن الآن يعرف بعضنا بعضاً، ويعرف الإنسان جيرانه وأصدقاءه وإخوانه وكذا وكذا، فنحن منشغلون ومنهمكون في هذا المحيط الذي يحيط بنا، وما هي إلا سنوات أو عقود قليلة من الزمان وإذا بك أنت وكل هؤلاء الذين تعرفهم ستكونون تحت التراب، وهكذا كل من على وجه الأرض؛ ليأتي جيل جديد، إلى أن يأذن الله سبحانه وتعالى بخراب الدنيا كلها، فكما نحن نجلس الآن في هذا المصر من الأرض فسيأتي غيرنا بعدنا، وهذه الأرض نفسها التي نعيش عليها كم من الناس قد عاشوا عليها منذ آلاف السنين! لقد عاش عليها أمم فأين هم الآن؟ قال عز وجل: {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا} [مريم:98].
وكما مضى من قبلنا، فنحن أيضاً سيأتي من بعدنا في نفس هذه الأراضي وهذه البلاد فيعيشون، قال عز وجل: {وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ} [إبراهيم:45].
فقوم يجيئون، وقوم يذهبون، ولا ينفع الإنسان ولا يبقى معه إلا عمله الصالح.
يقول ابن الجوزي: زمان البلاء والتكليف والمشقة والصبر على الأذى والصبر على فتن الدنيا هو ضيف سريع الزوال، قراه الصبر.
أي: إذا أتاك ضيف البلاء في سبيل الدين فأقره الصبر، والقرى هو: ما يقدم للضيف من الكرم، فأكرم هذا البلاء بأن تصبر عليه إلى أن يرحل؛ فإنه لن يبقى معك طويلاً.
ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (تعوذوا بالله من شر جار المقام؛ فإن جار الضعن إذا شاء أن يزايل زايل).
يقول: واعلم أن زمان الابتلاء ضيف قراه الصبر، كما كان الإمام أحمد بن حنبل يعزي على زهده في الدنيا بأن يقول: إنما هو طعام دون طعام، ولباس دون لباس، وإنها أيام قلائل، فلا تنظر إلى لذة المترفين، وتلمح عواقبهم، ولا تضق صدراً بضيق العيش، وعلل الناقة بالحدو تسر: طاول بها الليل مال النجم أن جنح وماطل النوم ظن الجفن أن سمح فإن تشكت فعللها المجرة من ضوء الصباح وعدها بالرواح ضحى وهذه هي سياسة المؤمن الحاذق الفطن في تعامله مع الدنيا، فإذا كان هناك عمل من أعمال الدنيا فسوِّف ما شئت، وليس هناك مشكلة، كما يقول الحسن: اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً.
فحين يتعارض عملان: عمل ستحاسب عليه ربما غداً أو بعد ساعة، وعمل أنت تعمله كأنك تعيش للأبد، فانظر أيهما يقدم على الآخر.
وهذا عكس ما يستعمل الناس هذه العبارة فإنهم يقولون: اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، ويفهمونها على أنك تخدم الدنيا تماماً، وكأنك تعيش أبداً، والأمر بالعكس؛ لأن الذي يعيش أبداً إذا فاته شيء من الدنيا الآن يعوضه غداً أو السنة القادمة أو التي بعدها؛ لأن الدنيا تعوض، أما الدين فلا يعوض، فكل شيء إذا ضيعته منه عوض، وليس في الله إن ضيعت من عوض، فإذا كسبت الله كسبت كل شيء، وإذا خسرت الله فاتك كل شيء.
فالإمام أحمد يبين لنا في هذه الكلمة الطيبة السياسة التي ينبغي أن يتعامل بها الإنسان مع الدنيا.
يقول الشاعر: طاول بها الليل مال النجم أن جنح يعني: استغرق الليل في طاعة الله وفي ذكر الله وفي العبادة، ولا تمل من ذلك، وكلما تقول لك نفسك: أريد أن أنام، فقل لها: بعد قليل، وهذا هو التسويف في العمل الصالح، وهذا بخلاف التسويف في شهوات النفوس، وبعكس ما يفعل أكثر الناس، فكن كلما اشتكت لك نفسك أنها تريد أن تنام وتريد أن تستريح، فقل لها: سأريحك بعد هاتين الركعتين، وإذا أتيت بركعتين فقل لها: سأريحك بعد أن أقرأ هذا الجزء من القرآن، فإذا انتهيت فقل لها: استريحي بعد هذا الورد من الدعاء، وهكذا سوفها في فعل الخير، كالإنسان المسوف الذي يماطل شريكه، ويتهرب منه بالوعود في المستقبل.
يقول: طاول بها الليل مال النجم أن جنح وماطل النوم ظن الجفن أن سمح فإن تشكت فعللها المجرة من ضوء الصباح وعدها بالرواح ضحى فكلما تأتي بعبادة فقل لنفسك إن تشكت في الليل: حينما تطلع مجرة الصباح سأريحك، ثم إذا طلع وقت الصبح عللها بوقت الضحى، وقل لها: سأريحك في الضحى.
هذا هو المقصود من الكلام.
وقد كان أهدي إلى أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى هدية من الخليفة المنصور، فردها للمنصور، ثم قال لأولاده بعد ما مرت سنة -أي: في الذكرى السنوية الأولى لهذه الهدية-: لو كنا قبلناها كنا قد استهلكناها وذهبت، أما الآن فقد استرحنا من هديته.
ومر بشر على بئر فقال له صاحبه: أنا عطشان، فقال: البئر الأخرى.
أي: انتظر حتى نصل إلى البئر التي بعدها، فمر عليها فقال له: الأخرى، أراد بذلك أن يعلمه درساً، فقال له: كذا تقطع الدنيا.
فكلما لاحت لك شهوة أو حاجة من حاجات الدنيا فلا تبادر بإنجازها وتحصيلها، ولكن سوف لنفسك في الدنيا، أما في الدين فلا تسوف؛ إنما في الدنيا قل لها: سوف أفعل كذا فيما يأتي.
ودخلوا على بشر الحافي وليس في داره حصير، فقيل له: ألا بذا تؤذى؟ فقال: هذا أمر ينقضي.