عن عصرنا حدث ولا حرج من مظاهر تسفل الهمم وانحطاطها؛ فانظروا إلى حال الشباب فقط، فلا أقول أكثر من هذا، انظروا إلى حال الشباب الذين ينتسبون إلى الإسلام كيف تصاغرت همهم، فلم تنشغل إلا بسفاسف الأمور ومحقراتها، فهم شباب الكرة والغناء إلا من رحمه الله، بل حتى في مذاكرتهم؛ فغالبهم يريد أن ينجح بدون جهد يذكر، بخلاف أجيال سابقة كانت أكثر جدية، فنحن نجد هؤلاء الشباب كل ما يشغلهم هي الأمور التافهة والساذجة، كما قال أحد الكتاب المسلمين: لقيت اليوم صديقنا فلاناً، وكان زعيماً سياسياً قديماً، فإذا هو على غير عادته؛ منشرح الصدر، ضاحك الأسارير، فقلت له: أراك اليوم على غير عادتك طلقاً نشيطاً بادي السرور، قال: وما لي لا أكون كذلك وقد أحرزت في هذا اليوم ثلاثة انتصارات؟ قلت: لك الحق إذاً في تهللك وفرحك؛ فنحن في زمان لا نكاد نظفر فيه بانتصار واحد بين مئات الهزائم، فما هي الانتصارات إن لم تكن سراً من الأسرار؟ قال: أما الانتصار الأول فقد دخلت غرفة نومي منذ ثلاثة أيام ذبابة أزعجت نهاري، وأرقت ليلي، وقد حاولت جهدي طردها أو قتلها فلم أفلح، إلى أن ظفرت بها اليوم، فقتلتها شر قتلة، وألقيتها حيث لا يمكن أن تعود حتى لو عادت إليها الحياة! قلت: والانتصار الثاني؟ قال: والانتصار الثاني شعرت به وأنا أزن نفسي في الحمام؛ إذ هبط وزني من تسعة وتسعين كيلو إلى ثمانية وتسعين وسبعمائة وخمسين جراماً! قلت: والانتصار الثالث؟ قال: لعبت اليوم بالنرد مع صديقنا فلان، فغلبته مرتين متواليتين، وهو الذي كان يغلبني باستمرار! أفتراني بعد ذلك كله حقيقاً بما أنا عليه من السعادة والطلاقة والمرح؟! قلت: بلى! بلى! بلى! وتابعت طريقي بأسىً بالغ وألم عميق وحزن غامر عليه وعلى أنفسنا معه؛ لقد تحقق عزلنا عن ميادين الحياة الجادة من قبل الطغيان الداخلي والخارجي، المحلي والدولي، وفاتتنا الانتصارات الحقيقية الكبرى.
وهكذا الآن أصبح الذي يطلق عليه البطل هو إما الممثل في الفيلم، أو المسرحية، أو لاعب كرة القدم، هذا هو البطل، وصار يقال: الأبطال، وهذه البطولة، والانتصار، والنجوم، إلى آخر نحو هذه الألفاظ الفخمة؛ كي يتلهى بها الناس، وتطلق على أخس خلق الله سبحانه وتعالى وأخبثهم.
يقول: تشاغلنا بأنفسنا ومطامعنا، والتمسنا الراحة والمتعة والرضا، ومثل انتصارات هذا السياسي الكبير القديم أظن أنه لا يختلف عنها بالجوهر، وإن اختلف بالشكل والعنوان؛ أليس هذا ضرباً من ضروب الجنون أو الموت المعنوي الذي يصنعه الطغيان؟! أليس الموت المادي الحقيقي أفضل من مثل هذه الحياة؟! إن الشباب يمعنون في التشبه بالكفار، بل يعلقون صور الممثلين على صدورهم! فأخس الصور وأحط الصور الآن أصبحت تعلق على صدور أولاد المسلمين من أجل الدعاية للفواحش! وحينما أرى شاباً من هؤلاء الرقعاء الذين يعلقون صور الممثلين هذه على ملابسهم أقول: أليس هذا يعود إلى بيته؟! أكيد أنه سوق يعود، وأكيد أن والدته تغسل له هذه الثياب، وأكيد أن أباه يراه، وإخوته يرون هذه الصور القبيحة، فأين هؤلاء جميعاً مما يصنع هذا؟! إن معنى ذلك أن هناك نوعاً من التخدير أو موت الغيرة في قلوب الناس، إلى حد أن يمشي إنسان بهذه الصور القبيحة، ويظهر بها متحدياً حتى الأخلاق العامة، ومع ذلك لا يخدش ولا يمس بأي سوء؛ فهو عبارة عن رقيق، وهو عبد فخور جداً بهذا الرق! هذا هو باختصار إيضاح الصورة التي نحن عليها.
فهو عبد ذليل فخور بالذل وبهذا الرق؛ حتى أن السيارات الآن تعلق عليها الأعلام الأمريكية، وتزين بالأعلام الأمريكية، ويعلقون عليها الآن شتى الصور، ونجد سيارات أخرى عليها أعلام بريطانيا الذي فيه صليب قائم وصليب نائم؛ فإن علم بريطانيا فيه صليبان، وهكذا غيرها من الأعلام!! وهذا يقول: أنا أحب ألمانيا! والآخر يقول: أنا أحب أمريكا! إلى آخر هذه التفاهات المعروفة؛ فهاهم يعلقون على صدورهم وسياراتهم أعلام الدول التي أذلت كبرياءهم وعزهم، وطأطأت أعناقهم، وأهدرت كرامتهم، واستعبدت أمتهم! وعلى صعيد آخر رأينا من يسوغ تعبيد الأمة وإذلالها وتبعيتها لأعدائنا؛ بحجة أننا لم نفكر برأسنا ما دمنا لا نأكل بفأسنا، وجعلوا نظرية الفأس والرأس تسويغاً وتبريراً للتبعية والذل الذي نحن فيه، ويرددون: لا نفكر برأسنا إلا إذا أكلنا بفأسنا، ومن هذا القمح الذي يأتينا من الميناء إلى الأفواه مباشرة، ولا حول ولا قوة إلا بالله! ونحن هنا نتكلم على أعراض هذا المرض، فمثل هذه التصريحات هي من مظاهر وأعراض هذا المرض.
وهكذا يقول بعض الناس: إن ما نحن فيه من الانحدار تسبب فيه من قبلنا، وسيصلحه من بعدنا، وكل جيل يأتي يردد هذه العبارة، بل عشنا حتى أدركنا زمناً لم تعد الخيانة فيه عاراً يذكر، لكنها شرف يظهر، ويتباهى به، ووظيفة مرموقة، ومفخرة يتهافت عليها!