يبين الشيخ محمد أحمد الراشد حفظه الله ملمحاً خطيراً من ملامح محنة المسلمين في عصر انحطاط الهمم، فيقول حفظه الله: إن محنة المسلمين اليوم لا تقتصر على تسلط أئمة الضلالة فحسب، بل تعدت ذلك إلى تربية سخرت المناهج الدراسية وكراسي الجامعات والصحف والإذاعات لمسخ الأفكار والقيم، حتى غدا صيد المخططات في سرور -والمقصود: المصيد الذي وقع في الفخ- يحسب نفسه في انعتاق من أسر القديم أي قديم كان، فهو تحرر من التقلد أو التمسك بالقديم، أو صار الآن رجلاً حراً متحرراً.
لقد وقع المسلمون اليوم ضحية لتربية أخلدتهم إلى الأرض، فأرادت لهم الفسوق ابتداءً؛ لتستخف بهم الطواغيت انتهاءً، وإنها خطة قديمة يأخذها الطاغوت اللاحق عن الطاغوت السابق، حتى وصلت وصولها إلى فرعون، وذلك كما يقول الله سبحانه وتعالى: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [الزخرف:54].
هذا هو التفسير الصحيح للتاريخ، وما كان فرعون بقادر على أن يستخف قومه فيطيعوه لو لم يكونوا فاسقين عن دين الله؛ فالمؤمن بالله لا يستجيب للطاغوت، ولا يمكن أن يطيع له أمراً.
فبلا شك أن الناس أنفسهم ليسوا معفيين عن المسئولية عن الأمر الواضح الذي وصلت إليه الأمة والدين، بل هم السبب في ذلك، وهم سبب أقوى من الحكام في تضييع الإسلام بسبب سفل الهمم، ولولا أنهم كانوا قوماً فاسقين لما سمحوا أن يسب دينهم على الملأ، وأن تكتب المقالات في أن القرآن فيه أخطاء نحوية! وأنه ليس بالضبط كلام الله سبحانه وتعالى! وغير ذلك من الفظائع التي حصلت والناس لا يبالون، وهؤلاء الناس أنفسهم لو أن السجائر ارتفعت أسعارها أو حصلت هزيمة في مباراة كرة قدم أو مات مطرب أو مغنٍ فإنهم يثورون! فلا شك أن هؤلاء الناس ممن انطبقت عليهم هذه الأوصاف من الفسق والخروج عن طاعة الله هم أيضاً ضلع كبير في الصد عن سبيل الله تبارك وتعالى، وضلع في هذا الاستخفاف.
فهؤلاء أدركوا المقتل الذي عرفه فرعون، فتواصوا به، وأخذوا يحولون المجتمعات إلى فتات غارق في وحل الفاحشة والفجور، مشغول بلقمة العيش، ولا يجدها إلا بالكد والعسر والجهد؛ كيلا يفيق بعد اللقمة وبعد الشهوات ليستمع إلى هدى، أو يفيء إلى دين، وصارت تلك سياستهم: سياسة محاربة المساجد بالمراقص، ومحاربة الزوجات بالنساء ذوات الفواحش، ومحاربة العقائد بأساتذة حرية الفكر، ومحاربة فنون القوة بفنون اللذة، وهكذا تحول بهذه التربية ذلك الصقر الإسلامي إلى مثل طائر الحجل.
والحجل: نوع من الطيور، واحده حجلة، وهو طائر أكبر من الحمام يصاد.
فالصقر تحول إلى طائر الحجل مشهور بالوداعة، كما يقول إقبال: إنه الأدب والترويض الذي استعمله أدب الضلال، كما يفعل بالضبط مع الوحش الكاسر المروض في السيرك؛ فإنه يروضه بحيث يصبح في الآخر مقلم الأظفار هادئاً وديعاً لا يزمجر ولا ينفعل، ولا يحرك أي شيء من هذا.
يقول إقبال وهو يصف هذا الأدب: يسلب السرو جميل الميل ويرد الصقر مثل الحجل يسخر الركبان باللحن المبين ولقاع البحر يهوي بالسفين نومة ألحانه يقظتنا أطفأت أنفاسه وقدتنا فهو يصف هذا الأدب بأنه يسلب السرو -والسرو: شجر معروف، وواحدته سروة- جميل الميل، ويرد الصقر مثل الحجل، ويسخر الركبان باللحن، يعني: حتى أجهزة تلفزيونه وأفلامه ونحوها تروض الرجل فعلاً، فالرجل أصبح مثل الجمل الذي استنوق، كما نسمع ونرى الرجل في الفيلم أو المسرحية أو التمثيلية تصفعه المرأة! فيضع يديه على الصفعة، ويضع وجهه في التراب؛ لأنه رجل مروض، قد قلمت أظفاره حتى صار كالجمل الذي استنوق، فهي عملية ترويض، فالمرأة تريه هذه الإهانة، وهو يقبلها صاغراً ذليلاً مهيناً! ولقاع البحر يهوي بالسفين، والسفين جمع: سفينة.
نومت ألحانه يقظتنا وهذا كما قال الخميني -وصدق وهو كذوب-: الموسيقى أفيون الشباب.
أي: تستعمل الموسيقى والأغاني في التخدير كالأفيون.
وقدتنا والوقدة هي: أشد الحر.
ثم قال: وأشرب الناس الذل بهذا الأذى فطرة وفي نفور من الذل ينفر من الذل، فيأبى على الحيف، ولكن تحيط بالناس أحوال، وتتوالى عليهم حادثات، فيراضون على الخضوع حيناً بعد حين، ويسكنون إلى الخنوع حالاً بعد حال؛ حتى يدربوا عليه، كما يستأنس السبع ويؤلف الوحش، ولكن يبقى في الناس ثمرات من الكرامة، ويبقى في الدماء شذرات من الجمر، فإذا دعى الداعي إلى العزة، وأذن بالحرية، وأيقظ الوجدان النائم، وحرك الشعور الهاجد، نبضت الكرامة في النفس، وبصت الجمرة في الرماد -يعني: لمعت- وأعادت للإنسان إنسانيته، فأبى وجاهد، ورأى كل ما يلقى أهون من العبودية، وأحسن من هذه البهيمية.
ذل من يربط الذليل بعيش رب عيش أخس منه الحمام وكل ذل يصيب الإنسان من غيره ويناله من ظاهره قريب شفاؤه ويسير إزالته.
وهذا أمر في غاية الأهمية، فإذا كان الذل والاستهزاء ناشئ عن عامل خارجي كقهر وكبت أو أي عوامل خارجية فهذا خفيف، وإنما المشكلة هي الأمر الذي يعبر عنه مالك بن نبي رحمه الله حيث قال: ليست المشكلة في الاستعمار، فكون أمة تقهر أمة وتستعمرها ليست هي المشكلة، المشكلة هي قابلية الشعب أن يستعمر، وأن يستذل، فهو في داخل نفسه قابل له، وهو راضٍ به وسعيد جداً أنه يذل، حتى كان الناس في بعض الأوقات يقارنون: أيهما أفضل: الاستعمار الروسي أم الاستعمار الأمريكي؟! وأيهما أفضل: اليهود أم كذا؟! وهذا يعكس هذه النفسية التي سقطت فيها الهمة، وسفلت إلى هذا المنحدر، حيث الرضا والخنوع، وأصبح الذل ينبع من الداخل، وليس فقط شيء يفرض على الإنسان من خارجه، فكل ذل يصيب الإنسان من غيره ويناله من ظاهره قريب شفاؤه، ويسير إزالته، فإذا نبع الذل من النفس وانبثق من القلب فهو الداء الدوي، والموت الخفي، ولذلك عمد الطغاة المستعبدون إلى أن يشربوا الناس الذل بالتعليم الذليل، وبالتأديب المهين، وتنشئة الناشئة عليه بوسائل شتى؛ ليميتوا الهمة، ويخمدوا الحمية؛ لأن بيدهم العصا والزمام.
ومن تمام لوازم عملية الترويض أن يضيقوا على دعاة الإسلام؛ ليستبد بالتوجيه التربوي والإذاعي والصحفي أدعياء العلم والشعر والحكمة الذين مضى أمرهم بأسماء منظمات تبدو في ظاهرها مختلفة تزين للجيل الجديد نسل المجاهدين وشبل الأسود أن يكون رقيقاً للشهوات والفواحش والعيش البغيض.
وبدءوا يمحون تراث الأمة التي نهضت به، ويطمسون قصص العلماء؛ حذراً من أن تكون نبراساً للجيل يستدل بها على طريق العمل.
فذلك قول شاعر الإسلام إقبال رحمه الله: ليس يخلو زمان شعب ذليل من عليم وشائع وحكيم فرقتهم مذاهب القول لكن جميع الرأي مقصد في الصميم علموا الليث جفلة الضبي وامحوا قصص الأسد في الحديث القديم همهم لقطة الرقيق برق كل تأوليهم خزاع عليم أي: أن كل همهم من هذه السياسات أن الرقيق يسخر، ويفرح بالذل الذي هو فيه، ويفتخر بأنه رقيق، وبأنه عبد مستذل ومهين، وقد كان لهم ما أرادوا، فهذا هو عنوان خطة الكيد اليهودي والصليبي: تعليم الليث الإسلامي جفلة الضبي، يعني: أنه يكون وديعاً هادئاً مستسلماً لما يملى عليه! وأيضاً: محو قصص أسود الإسلام من العلماء والزهاد والمجاهدين من تاريخ القرون الفاضلة الأولى لهذه الأمة المجاهدة، وأنتجت خطط التربية ذلك الضبي الجفول الذي لم يعد يقتحم، واستبدل العزم بالهوان والمسارعة بالهرب؛ إنهم هذا الجيل من أبناء المسلمين، شبل أسد تحول إلى ضبي وديع، وحر استرقوه ففرح بهذا الرق.
هذه إشارة عابرة لمظاهر هذا المرض الخطير: انحطاط الهمم وتسفلها.