شكا ابن خلدون رحمه الله تعالى تشبه المسلمين في عصره بأعدائهم الكفار، واعتبر أسباب التشبه بالكفار مظهراً من مظاهر سقوط الهمة، وأمارة من أمارات ضياع الأندلس من أيدي المسلمين قبل أن تضيع؛ حيث قال رحمه الله تعالى في مقدمته المشهورة: ولذلك ترى المغلوب يتشبه أبداً بالغالب.
أي: أن المغلوب دائماً يميل إلى التشبه بمن يغلبه ومن يقهره، وهذا هو نفس الظاهرة الموجودة الآن من الوقوع في هوى تقليد الغرب، والتبعية لهم على جميع المستويات، ولا نستثني مستوىً واحداً منها؛ ففي اللغة نتكلم بلغة الغرب، وفي العادات والتقاليد نستخدم أساليب وعادات ومناهج الغرب؛ حتى في مناهج التفكير صرنا نمشي بلا أي هوية.
وأصبح الحال كما قيل: ويل للمغلوب من الغالب.
يقول ابن خلدون: ولذلك ترى المغلوب يتشبه أبداً بالغالب في ملبسه ومركبه وسلاحه؛ في اتخاذها وأشكالها، بل وفي سائر أحواله، وانظر ذلك في الأبناء مع أبنائهم كيف تجد المتشبهين بهم دائماً؛ وما ذلك إلا اعتقادهم الكمال فيهم.
فدائماً الابن يحاكي أباه؛ لأنه يرى أن أباه أفضل أنموذج أمامه في الدنيا، فمهما يفعل الأب فإنك تجد الولد يتشبه به؛ لأنه يعتقد الكمال في أبيه، فكذلك إذا كانت أمة تجاور أمة أخرى، ولها الغلب عليها، فيسري إليهم من هذا التشبه والاقتداء حظ كبير، ونحن رأينا كيف كان في زمن نهضة المسلمين في الأندلس يفد إلى الأندلس من جميع أوروبا الشباب الأوروبي، من ألمانيا وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا وكل هذه البلاد كانوا يأتون إلى الأندلس؛ ليتلقوا العلم على أيدي العلماء المسلمين، ولا نقول: العرب، بل على أيدي العلماء المسلمين، وكانت لغة العلم هي اللغة العربية، فكان لزاماً على كل طالب يريد أن يتلقى العلم الحديث وأحدث ما وصل إليه العلم أن يتعلم أولاً اللغة العربية، فكان الشاب الغربي إذا رجع إلى بلاده يفتخر أمام أقرانه بأنه درس في بلاد المسلمين، ويعتبر هذا من مظاهر المفاخرة العظيمة، فكان يخلط كلامه أحياناً بألفاظ عربية، ثم يعود يتكلم بلغته القومية، الأمر الذي حدا بالكنيسة إلى أن أصدرت قراراً بالتهديد وبالحرمان من الجنة لهؤلاء! وقالت لهم: إن هؤلاء الشبان الرقعاء الذين يذهبون إلى بلاد المسلمين ثم يعودون إلى بلادهم فيبدءون كلامهم باللغة العربية، ثم يتكلمون بلغتهم القومية -يعني: أنهم يفعلون ذلك كي يعرف الناس أنهم تعلموا في بلاد المسلمين- هؤلاء الشبان الرقعاء إن لم يكفوا عن ذلك فسوف تصدر الكنيسة ضدهم قرارات حرمان من الجنة! وهذا لا شك أنه مظهر من مظاهر علو همة المسلمين، وكيف أنهم لما كانت لهم الغلبة كان الجميع يتشبهون بهم.
ومن البلاد التي انتشرت فيها اللغة العربية بسرعة غير متوقعة ولله الحمد هي مصر، وربما يكون هناك سبب ثانوي هو: أن المصريين -كما يقال- عندهم موهبة في تعلم اللغات، ولكن هناك سبب أساسي، وهو أن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه لما فتح مصراً كان ذكياً إلى درجة عالية جداً.
قال عمرو بن العاص: إن أي موظف يعين في الهيئات أو الوظائف الحكومية التابعة لولايته لابد أن يعرف اللغة العربية.
فتنافس أهل مصر في تعلم اللغة العربية كي يحوزوا المناصب والوظائف؛ حيث كان تعلمها شرطاً في تقلد الوظائف، ولذلك انتشرت اللغة العربية انتشاراً سريعاً جداً في مصر ولله الحمد.
يقول ابن خلدون: إنه إذا كانت أمة تجاور أخرى ولها الغلبة عليها فيسري إليهم من هذا التشبه والاقتداء حظ كبير، كما هو في الأندلس لهذا العهد مع أمم الجلالقة -أي: الأسبان- فإنك تجد أنه لما بدأ يضعف نفوذ المسلمين أمام الجلالقة الأسبان تجد أن بعض المسلمين يتشبهون بهم في ملابسهم وشاراتهم والكثير من عوائدهم وأحوالهم؛ حتى في رسم التماثيل في الجدران والمصانع والبيوت.
والإنسان إذا رأى صور القصور في الندلس مثل قصر الحمراء وغرناطة وقرطبة يجد أن في ساحات هذه القصور كساحة السباع، وهي عبارة عن تماثيل للأسود تخرج من فمها النوافير، مع أن هذا في قصر كان يملكه حكام مسلمون! فإذا كان هذا شأن الحكام في تخليد التماثيل وقد عرف تحريمها الأكيد في الشريعة الإسلامية فإن هذا يعكس مدى ما حصل بسبب الاقتداء بالكفار في هذا الأمر.
يقول الإمام ابن خلدون: حتى لقد يستشعر من ذلك الناظر بعين الحكمة أنه من علامات الاستيلاء، فالأمر لله.
وكلامه هذا معناه: أن هذه الأمة ستنهار أمام أعدائها، ولا يبقى لها قوة، وحدث ما توقعه ابن خلدون رحمه الله تعالى، واستولى الفرنج على الأندلس الإسلامية، وأخرج المسلمون منها بعد مائتي سنة من كتابته لهذه السطور.