قرأت في مجلة هذه المقالة فأعجبتني ووجدتها مناسبة أن ندرجها في كلامنا هذا، يقول الكاتب: لقيت اليوم صديقنا فلان الزعيم السياسي القدير فإذا هو على غير عادته منشرح الصدر، مفتر الطرف ضاحك الأسارير، فقلت له: أراك اليوم على غير عادتك طلقاً نشيطاً بادي السرور! قال: ومالي لا أكون كذلك وقد أحرزت في هذا اليوم ثلاثة انتصارات.
قلت: لك الحق إذاً في تهللك وفرحك، فنحن في زمان لا نكاد نظفر فيه بانتصار واحد بين مئات الهزائم، ولكن قل لي: ما هذه الانتصارات إن لم تكن سراً من الأسرار؟ قال: أما الانتصار الأول فقد دخلت غرفة نومي منذ ثلاثة أيام ذبابة أزعجت نهاري وأرقت ليلي، وقد حاولت جهدي طردها أو قتلها فلم أفلح إلى أن ظفرت بها هذا اليوم فقتلتها شر قتلة وألقيتها حيث لا يمكن أن تعود حتى لو عادت إليها الحياة! قلت: والانتصار الثاني؟ قال: أما الانتصار الثاني فقد شعرت به وأنا أزن نفسي في الحمام، إذ هبط وزني من تسعة وتسعين كيلو جرام إلى ثمانية وتسعين وسبعمائة وخمسين جراماً! قلت: والانتصار الثالث؟ قال: لعبت اليوم بالنرد -الطاولة- مع صديقنا فلان فغلبته مرتين متواليتين، وهو الذي كان يغلبني باستمرار! أفتراني بعد ذلك كله حقيقاً بما أنا عليه من السعادة والطلاقة والمرح؟! قلت: بلى بلى! يقول الكاتب: وتابعت طريقي بأسىً بالغ وألم عميق وحزن غامر عليه وعلى أنفسنا معه، لقد سحقنا وعزلنا عن ميادين الحياة الجادة الطغيان الداخلي والخارجي المحلي والدولي، وفاتتنا الانتصارات الكبرى فشغلنا أنفسنا وعوضنا مطامحنا والتمسنا الراحة والمتعة والرضا بمثل انتصارات هذا السياسي الكبير القدير، أو بما لا يختلف عنها بالجوهر وإن اختلف بالشكل والعنوان، أليس هذا ضرباً من الجنون أو الموت المعنوي الذي يصنعه الطغيان؟! أليس الموت المادي الحقيقي أفضل من مثل هذه الحياة؟! فهل يتصور أن مسلماً يعيش في هذه الانتصارات؟! ودعك من انتصارات الكرة فكأنها حروب، وهكذا الرياضات والفن، صار البطل هو بطل التمثيلية أو المسرحية أو الفلم! وصار الراقصات وهؤلاء الفساق هم النجوم! فهذه هي الانتصارات! وهذه هي ما يشجع باسم الفن والرياضة وغير ذلك من التفاهات التي يريدون إغراق الأمة بها؛ كي لا تنهض إلى هدف أسمى ولا تدرك حقيقة ذاتها، فالمسلم يقول الله فيه: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33] فالمسلم يفخر بهذا، وهم الآن يريدون أن يصلوا بنا إلى أننا لا نظهر فخرنا بديننا، وإذا سئلت: أنت مسلم؟ أو إذا أظهرت شيئاً من الدين تكون مستخذياً متبرئاً تريد أن تقول للناس: أنا لست متطرفاً أنا لست إرهابياً أنا لست كذا، وكأنك في موقف الدفاع، وكأن الانتساب للإسلام شيء يجلب الخزي والعار وليس العزة والاستعلاء على الباطل وعلى أهله، فهذا هو ما يقصدونه: أنك تفقد هويتك وتفقد اعتزازك بإسلامك ولا تفتخر به، بل تشعر بالخزي والخذلان وأنك مضطهد وأنك مطارد في كل مكان، وأنك حيثما حللت ينظر الناس إليك على أنك إنسان غريب، ويتهمون المتمسكين بالدين بأنكم أنتم الذين تقتلون، وأنتم الذين تفسخون النساء وتتزوجونهم من أزواجهن، وهؤلاء هم الذين يكفرون الناس، وهذا كله المقصود منه: أن تشعر بالاستخذاء وبالدونية وبالنقص، وبالتالي يقتلون فيك الاعتزاز بهذا الدين، فهذا هو هدفهم الذي ينبغي أن نكون واعين به.
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: لا شيء أقبح بالإنسان من أن يكون غافلاً عن الفضائل الدينية والعلوم النافعة والأعمال الصالحة، فمن كان كذلك فهو من الهمج الرعاع، الذين يكدرون الماء، ويغلون الأسعار، إن عاش عاش غير حميد وإن مات مات غير فقيد، فقدهم راحة للبلاد والعباد، ولا تبكي عليهم السماء ولا تستوحش لهم الغبراء.
وقال أيضاً في الذين حرموا العلم والبصيرة والهمة والعزيمة: هم الموصوفون بقوله تعالى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} [الأنفال:22]، وبقوله: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان:44]، وبقوله: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ} [النمل:80]، وبقوله: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر:22].
قيل: (من في القبور) يعني: أجسادهم قبور لهم.
وهذا الصنف شر البرية، ورؤيتهم قذى العيون، وحمى الأرواح، وسقم القلوب، يضيقون الديار، ويغلون الأسعار، ولا يستفاد من صحبتهم إلا العار والشنار، وعند أنفسهم أنهم يعلمون ولكن ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون، ويعلمون ولكن ما يضرهم ولا ينفعهم، وينطقون ولكن عن الهوى ينطقون، ويتكلمون ولكن بالجهل يتكلمون، ويؤمنون ولكن بالجبت والطاغوت، ويعبدون ولكن من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم، ويجادلون، ولكن بالباطل ليدحضوا به الحق، ويتفكرون ويبيتون ولكن ما لا يرضى من القول، ويدعون، ولكن مع الله إلهاً آخر يدعون، ويحكمون، ولكن حكم الجاهلية يبغون، ويقولون: إنما نحن مصلحون، ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون، فهذا الضرب ناس بالصورة وشياطين بالحقيقة، وجلهم إذا فكرت فهم حمير أو كلاب أو ذئاب، وصدق البحتري في قوله: لم يبق من جل هذا الناس باقية ينالها الوهم إلا هذه الصور ليس فيهم من الإنسان إلا الشبح وإلا هذه الصور، وقال آخر: لا تخدعنك اللحاء والصور تسعة أعشار من ترى بقر في شجر السدر منهم مثل لها رواء وما لها ثمر فشجر السدر ضخم وكبير وذو منظر لكن ليس له ثمر فهو عقيم، وأحسن من هذا كله قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} [المنافقون:4] عالمهم كما قيل: زوامل للأسفار لا علم عندهم بجيدها إلا كعلم الأباعر لعمرك ما يدري البعير إذا غدا بأوساقه أو راح ما في الغرائر إن كان عندهم علم فهم لا يفقهون كمثل الحمار يحمل أسفاراً.
يعني: أن البعير قد يحمل كماً كبيراً من كتب العلم على ظهره، لكنه لا يعيها ولا يفقهها، وأحسن من هذا وأبلغ وأوجز وأفصح قوله تعالى: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أسفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الجمعة:5].