الناس جميعاً مؤمنون وكفار لابد لهم من مراد يقصدونه ويتوجهون إليه، فلا يوجد إنسان إلا ولابد له من هدف، ولابد له من شيء يريده، على ذلك فطرهم الله، فالإنسان دائم الهم والإرادة، دائب العمل والحركة، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (أصدق الأسماء حارث وهمام) يعني: أصدق الأسماء التي تعبر عن الصفات المغروسة في البشر اسم حارث وهمام؛ لأن كل إنسان حارث، يعني: أنه عامل أو كاتب، وكل إنسان همام، أي: كثير الهم والإرادة، فالإنسان مجبول على أن يقصد شيئاً ويريده ويستعينه ويعتمد عليه في تحصيل مطلبه، فالمؤمن الموفق يكون مفتقراً إلى الله، قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ} [فاطر:15] فهو يريد الله سبحانه وتعالى بفطرته، وقد يريد الإنسان غير الله، فالإنسان لا يمكن إلا أن يكون له مراد يقصده ويتوجه إليه.
والسبب في ذلك: أن الإنسان فقير إلى غيره محتاج إليه لكي يسد نقصه ويكمل عجزه ويحصل حاجته، وفقره هذا دائم لا يتوقف ولا ينقطع.
فكل إنسان له مراد يريده وينجذب إليه، وهذا المراد إما أن يكون الله سبحانه وتعالى عند المؤمن وإما أن يكون الدنيا أو الشهوات أو المناصب أو الجاه أو محبوباً من المخلوقات وهكذا.
ومن عجائب هذا الإنسان أنه إذا أراد وكان هدفه وغايته شيئاً من المخلوقات وحصل عليه فإنه يمله ويطلب غيره أو أكثر منه، فمادام شيئاً دون الله فإنك تجد القلب لا يشبع منه ولا يقنع به، بل دائماً يتحرك إلى ما هو أعلى أو إلى غيره، وفي ذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لو كان لابن آدم واديان من ذهب لتمنى ثالثاً) فلو أن واحداً يريد المال والغنى والجاه فآتاه الله سبحانه وتعالى واديين من الذهب فإنه لن يقنع وسيقول: هذا لا يكفي، ثم يتطلع من جديد إلى المزيد.
قال عليه الصلاة والسلام: (لو كان لابن آدم واديان من ذهب لتمنى ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب) يعني: لا يزال حريصاً على الدنيا حتى يموت ويمتلئ جوفه من تراب قبره، إلا من وفقه الله وعصمه من الحرص المذموم، فالنفس الإنسانية دائمة التطلاب لما لم تحصل عليه ولم تصل إليه، وليس هناك من شيء يمكن أن يسد فقرها وحاجتها إلا أن تصل إلى ربها ومعبودها، فهذه هي المحطة التي إذا وصل الإنسان إليها يستقر قلبه ويشبع ولا يلتفت إلى غيره، فإن وصل العبد إلى ربه عند ذلك يجد القلب مطلوبه، يعني: أن القلب لا يطمئن ولا يسكن إلا إذا وصل إلى محبة الله سبحانه وتعالى وإرادته، وكل ما دون ذلك مهما ينال من محبوبات فهو يملها ويريد التحول عنها، فيكون الاطمئنان والراحة والهناء عند معرفة الله سبحانه وتعالى، ولذلك يقول تعالى: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] أي: تسكن إذا ذكرت الله وعرفت الله سبحانه وتعالى.
فليس هناك ما يمكن أن يجلب الطمأنينة إلا الوصول إلى الرب المعبود معرفة وقصداً وتوجهاً.
ويعبر الإمام ابن القيم تعبيراً جميلاً عن هذا المعنى فيقول رحمه الله تعالى: لقد كان يسبي القلب في كل ليلة ثمانون بل تسعون نفساً وأرجح يهيم بهذا ثم يألف غيره ويسلوهم من فوره حين يصبح وقد كان قلبي ضائعاً قبل حبكم فكان بحب الخلق يلهو ويمرح فلما دعا قلبي هواك أجابه فلست أراه عن خبائك يبرح وكم مشترٍ في الخلق قد سام قلبه فلم يره إلا لحبك يصلح هوى غيركم نار تلظى ومحبس وحبكم الفردوس أو هو أفسح فيا ضيم قلب قد تعلق غيركم ويا رحمة مما يجول ويكدح والنفس في طلب مرادها مترقية متسامية تطلب الأكمل والأفضل، والكمال كله والفضل كله حازته الذات الإلهية، فإذا وجه الإنسان قصده وهمته لغير فاطره فإنه يشقى ولابد؛ لأن همومه تتعدد وغاياته تتشتت، فإذا لم يكن هم العبد هماً واحداً تقاسمته هموم الدنيا، فعند ذلك لا يدري إلى أين يسير، ولا كيف يتجه، فمرة يشرق ومرة يغرب ومرة يعبد صنماً وأخرى شمساً وقمراً، ويحاول إرضاء هذا مرة وذاك مرة، والذي رضي عنه قد يغضب عليه، والذي زين له العمل قد يستقبحه منه بعد حين فيئول الأمر به إلى الصراع والقلق الروحي والعقد النفسية وقد ينتهي به إلى الانتحار.
أما المسلم فغايته واحدة، ومنهجه الذي يؤدي إلى هذه الغاية واحد، وهو قادر على أن يرضي الله ويسير على هداه، وبذلك تتوحد همته ويتحقق مطلوبه؛ لأن إرضاء الله مأمور ومقدور، فأنت مأمور بإرضاء الله، وأنت تقدر على أن ترضي الله وأن تتبع شرعه في طاقتك كما قال عز وجل: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] لكن إرضاء غير الله لا مقدور ولا مأمور، بمعنى: أنه لا يمكن أبداً أن تستطيع أن ترضي كل الخلق، فإذا فعلت فعلاً معيناً فإنه يرضى عنك البعض ويغضب عليك الآخرون، وإذا أرضيت هؤلاء يسخط هؤلاء، وإذا فعلت العكس يسخط فريق ويرضى فريق، فإرضاء المخلوق غير مقدور وغير مأمور، فلا تبال بإرضاء الناس واجتهد في إرضاء الله سبحانه وتعالى يتكفل لك بكل أمورك، أما إرضاء الناس فإنه غير مقدور وغير مأمور، فلا الله أمرك أن ترضي الناس ولا أنت مكلف بذلك، ولا هذا يقع لأحد، حتى الأنبياء لم يتفق عليهم البشر، فمنهم من كذبهم ومنهم من آمن بهم، فاجتماع الخلق ورضى الناس كلهم على شيء معين هذا لا يمكن أن يقع حتى للأنبياء عليهم السلام.
فإرضاء الخلق غير مقدور وغير مستطاع وغير مأمور به وأنت غير مكلف به، لكن إرضاء الله مقدور ومأمور، فأنت تقدر عليه وأنت مأمور به، بجانب أنك إذا أرضيت الله أرضى عنك الناس كما سيأتي، وفي ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من كانت نيته الآخرة جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت نيته طلب الدنيا جعل الله فقره بين عينيه، وشتت عليه أمره، ولا يأتيه منها إلا ما كتب له) يعني: أن الرزق لا يأتي به حرص حريص ولا يرده كراهية كاره، فأنت ترزق رغم أنفك حتى لو كنت ترفض هذا الرزق مادام مكتوباً لك، يقول صلى الله عليه وسلم في معنى الحديث: (لو أن رجلاً يفر من رزقه كما يفر من الموت لأدركه رزقه كما يدركه الموت) لو أنك تهرب من الرزق كما تهرب من الموت لأدركك الرزق كما يدركك الموت لا محالة.
فالشاهد: أن الإنسان إذا جعل همه هماً واحداً هو إرضاء الله سبحانه وتعالى فإنه يكافأ هذه المكافئة: (جعل الله غناه في قلبه) ولاشك أن غنى القلب هو أعلى أنواع الغنى.
قال عليه الصلاة والسلام: (جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة) أي: وهي ذليلة، لكن من كانت نيته طلب الدنيا، ومع أنه يحرص على الهروب من الفقر بالسعي الحثيث وراء الدنيا، لكنه لما جعل هدفه الدنيا وليس الله كانت عقوبته: (ومن كانت نيته طلب الدنيا جعل الله فقره بين عينيه، وشتت عليه أمره، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب الله له).
يقول الشاعر: ومشتت العزمات ينفق عمره حيران لا ظفر ولا إخفاق فهذه هي نتيجة التشتت، لكن إذا وحدت هدفك وجعلت هدفك هو الله وإرضاء الله والالتزام بشرع الله وتحقيق العبودية لله فالله سبحانه وتعالى يكفيك كل ما أهمك، وكل أمورك ييسرها الله سبحانه وتعالى لك ويأتيك رزقك مباركاً وتنجو من آفات طلب الدنيا.