هنا وقفة في هذا المقام مع أحوال خسيس الهمة، فنحن نتكلم عن صفات عالي الهمة، وبالضد تتبين الأشياء، فالإنسان المسمى بالحيوان الناطق هذا الكائن دائماً يكون في موضع تجاذب بين أخلاق وطباع العالم السفلي وبين صفات وصفاء العالم العلوي.
فيحن ذاك لأرضه بتسفل ويحن ذا لسمائه بتصعد من كان عالي الهمة يسمو إلى أعلى والآخر يتثاقل إلى الأرض، وتجذبه ثقلة الأرض وجاذبية الأرض.
يقول أحمد بن خضرويه: القلوب جوالة، فإما أن تجول حول العرش وإما أن تجول حول الحش، والحش: مكان الغائط والنجاسات.
يعني: أن القلوب جوالة، فإما أن تجول حول العرش فتصعد وتسمو إلى المطالب العالية ومطالب الآخرة والجنة ورضا الله سبحانه وتعالى، وإما أن تجول حول الحش، وحول أماكن النجاسات.
وقال بعضهم: نزول همة الكساح دلَّاه في جب العذرة.
والكساح هو: الذي يتعامل مع المجاري والنجاسات وينظف هذه الأشياء، وهذا معناه: أنه لما كان هذا الشخص كسلاً عن أن يتعلم حرفة أو علماً ينتفع به يكرمه بين الناس لم يكن أمامه إلا النزول إلى الجب لتنظيفه من الغائط، فنزول همته جعله يتعامل مع هذه النجاسات.
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: الأرواح في الأشباح كالأطيار في الأبراج، والأشباح هي الأجسام، والأطيار أنواع، وليس ما أعد للاستفراخ كمن هيئ للسباق، فهذه الطيور التي تلد وتتكاثر وتتعاظم وتسمن ليست مثل التي تعدها وتهيئها للسباق.
فشاء الله سبحانه وتعالى أن يجعل سعي خلقه شتى، فمنهم من همته الأمور العالية ومنهم من همته دون ذلك.
يقول الشاعر: خلق الله للحروب رجالاً ورجالاً لقصعة وثريد فالقصعة والفتة والثريد غايتهم، فإذا رفض الإنسان الارتقاء إلى عليين وعشق الظلمة ومقت النور وأبى إلا أن يهبط بنفسه إلى وحل الشهوات فتمرغ بها وانحط إلى نزوات الحمر وسفاسف الأمور ونزغات الشياطين، وتثاقل إلى الأرض سقط إلى سجين وما أدراك ما سجين؟ وانحدر دون مرتبة ذوات الحوافر.
يقول تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كثيراً مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179].
وقال تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ} [محمد:12] والأنعام تأكل لتسمن، كذلك هؤلاء يسمنون وينشغلون بالدنيا كي تأكلهم النار في النهاية، فهم كالأنعام ليس لهم هم إلا تحصيل الشهوات.
كالعير ليس له بشيء همة إلا اقتضام القضب حول المذود فالعير وهذه البهائم ليس لها همة أبداً إلا في مأكلها، الجمل أو البقر أو الجاموس كل همتها أن تقتضم وتقتطع القضب وهو ما أكل من النبات المقطوع غضاً طرياً، كالحشائش وهذه الأشياء.
والمذود هو معتلف الدابة.
وكل هم أعداء الإسلام الآن هو أن يغرقوا شباب المسلمين في هذا اللهو الفارغ وفي هذه التفاهات والسذاجات، أو أن يشغلوهم بالشبهات، ولذلك خر كثير من الشباب صرعى للحياة وما يسمونه التنوير وهذه الحملات الشيطانية على دين الله سبحانه وتعالى التي أغرقوا فيها الأسواق بالشبهات وبالكتب التي تطعن في الدين، وعلى الجانب الآخر يفتح الباب على مصراعيه في الشهوات والانحرافات الخلقية والأغاني والموسيقى وحتى (الماكدونالد) و (الويندي) وحتى السندويتشات الأمريكية، فحتى الطعام صاروا يغزوننا به ويلهوننا بهذه التفاهات، حتى لا يبقى لنا همة عالية ولا يبقى لنا هدف في الحياة سوى تحصيل هذه الشهوات.
وطبعاً حينما نرى ونلحظ الشباب المتسكع في الطرقات والفتيات المتبرجات المهتكات، والتفاهة التي تغمر معظم شباب هذا العصر نحس كم نجح أعداء الدين في إلهائنا بهذه التفاهات! وهذا طبعاً نلمسه ولا نضيع الوقت في تفصيله؛ لأنكم جميعاً تلمسون مدى الانحدار الذي وصل إليه الخلق عند هذا الشباب، وعن عاقبة النحر والذبح بعده، فهؤلاء أيضاً ساهون عما ينتظرهم في غدهم، وهم أضل من الأنعام؛ لأن الأنعام تبصر منافعها ومضارها وتتبع مالكها، وهذا هو وجه أفضلية الأنعام عليهم، كما قال عز وجل: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان:44]، لماذا أضل سبيلاً؟ ولماذا هذا الإضراب؟ لأننا إذا قارنا بين الأنعام وبين هؤلاء الكفار وجدنا الأنعام أفضل، فهم كالأنعام لأنهم يأكلون ويغفلون وهمهم الأكل والشراب والشهوات، مع الغفلة عن عاقبة النحر والذبح بعد ذلك، وأيضاً فالأنعام ساهية عما في غدها، لكنهم أضل من الأنعام؛ لأن الأنعام تدرك مضارها ومنافعها، فالحيوان البهيم يدرك المضار والمنافع ويحرص دائماً على أن يجلب المنفعة وأن يدفع الضرر، وأنت لو حاولت أن تقتل نملة أو أي حشرة فإنها ستقاوم وتهرب وتفر وتقفز وغير ذلك وهي ليس عندها عقل، لكنها مع عدم وجود العقل ألهمت الحرص على جلب المنفعة ودفع المضرة، فالنمل أو النحل لو تفكرت فيها تجد أنها تعمل للمستقبل، فالنمل يدخر الطعام في الشقوق لأجل الشتاء، وهذا تخطيط اقتصادي بعيد المدى، وهكذا عجائب النحل، وغير ذلك من عجائب خلق الله، فحتى هذه العجماوات تدرك مصالحها فتحرص على تحصيلها، وتعرف أيضاً المضار وتحرص على اجتنابها، ومع ذلك أيضاً هذه الأنعام تتبع مالكها؛ لأنه سيدها ومالكها فتتبعه، وأما هؤلاء فبخلاف ذلك لا يتبصرون ما ينفعهم وما يضرهم، وفي نفس الوقت يتمردون على خالقهم وبارئهم ومالكهم سبحانه وتعالى.
ولذلك قال عطاء: الأنعام تعرف الله والكافر لا يعرفه.
يعني: أن الأنعام تعرف الله عز وجل كما قال سبحانه: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء:44]، والكافر لا يعرف الله سبحانه وتعالى.
ووصف سعد بن معاذ رضي الله تعالى عنه المشركين فقال: (رأيت قوماً ليس لهم فضلاً على أنعامهم، لا يهمهم إلا ما يجعلونه في بطونهم وعلى ظهورهم، وأعجب منهم قوم يعرفون ما جهل أولئك ويشتهون كشهوتهم!).
وإنك إن أعطيت بطنك سؤله وفرجك نالا منتهى الذم أجمعا وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (إياكم والبطنة في الطعام والشراب؛ فإنها مفسدة للجسد، مورثة للسقم، مكسلة عن الصلاة).
والبطنة: التخمة وكثرة الأكل، فهذا من مضار الوزن الثقيل والبطنة والاشتغال بالشواغل.
والناس الآن أصبح همهم الأول استيفاء الشهوات بأقصى ما يمكن، وتحصيل الطعام الكثير، ثم الهم الآخر هذه التفاهات الموجودة في أن أحدهم صار همه إنقاص الوزن والرشاقة والقوام وغيرها من الاشتغال بهذه الأشياء، مع أنه ينبغي أن تمتنع من الأكل ابتداءً أو تقتصد في الأكل، ولا تحتاج إلى الكلام في إنقاص الوزن وغير ذلك والأمراض التي تليها، فهذه أيضاً كأنها عقوبة، فكل همهم أن يأكلوا ثم بعد ذلك يهمون كيف يتخلصون من الأكل الكثير.
وقد وصف الشاعر رجلاً أكولاً يستغرق حياته في نهمه وشهواته، فقال في شأنه: عريض البطان جديد الخوان قريب المراث من المرتع فنصف النهار لكرياسه ونصف لمأكله أجمع وقوله: (عريض البطان) أصل البطان هو: حزام القتب الذي يجعل تحت بطن الدابة.
والمعنى أن حزامه واسع جداً؛ ولشدة كبر بطنه وامتداد كرشه فإنه يستعمل حزاماً عريضاً طويلاً، وهذا تعبير عن السمنة.
وقوله: (قريب المراث من المرتع) المراث هو: مكان الروث، فكما أن البهيمة ترتع في المرعى ومكان الروث يكون قريباً من نفس المرعى، فكذلك نفس هذا الشخص يحرص جداً على أن يكون مكان قضاء الحاجة قريباً من حجرة الطعام.
وقوله: (فنصف النهار لكرياسه) الكرياس هو: الكنيف الذي يكون مشرفاً على السطح بقناة إلى الأرض، فهذا هو وصفه.
وقوله: (ونصف لمأكله أجمع) يعني: أنه نصف النهار يأكل والنصف الآخر يكون في هذا المكان.
وعن محمد بن الحنفية قال: من كرمت عليه نفسه هانت عليه الدنيا.
وقيل لـ محمد بن واسع: إنك لترضى بالدون؟ قال: إنما رضي بالدون من رضي بالدنيا.
يا خاطب الدنيا إلى نفسها تنح عن خطبتها تسلم إن التي تخطب غرارة قريبة العرس من المأتم وسفلة الهمم هؤلاء هم الذين أخبر عنهم الصادق المصدوق بقوله: (وأهل النار خمسة: الضعيف الذي لا زبر له، الذين هم فيكم تبعاً، لا يبغون أهلاً ولا مالاً)، فيصف الرسول عليه الصلاة والسلام خمسة من أهل النار، ويذكر من هؤلاء الخمسة: الضعيف الذي لا زبر له، يعني: لا عقل له يمنعه ويزجره عما لا ينبغي.
وقيل: هو الصعلوك الذي لا مال له.
قوله: (الذين هم فيكم تبعاً) يعني: يرضون أن يكونوا دائماً ذيولاً في المؤخرة، قوله: (لا يبغون أهلاً ولا مالاً)، فأحدهم يحرص دائماً أن يفر من المسئولية، ولا يريد زوجة ولا يريد أولاداً ولا يريد أن يسعى في مصالحه، لكن يريد دائماً أن يرضى بالدون وأن يكون تابعاً، فهو قانع بكونه ذليلاً ومسبوقاً وتابعاً وفاراً من المسئولية وتبعتها، ففيهم يقول الشاعر: شباب قنع لا خير فيهم وبورك في الشباب الطامحينا فهؤلاء هم الغثاء الذين أخبر عنهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فقال قائل: أو من قلة نحن يومئذٍ؟ قال: بل أنتم يومئذٍ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن.
فقال قائل: يا رسول الله! وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت).
وفيهم قال الشاعر: وأفتح عيني حين أفتحها فأرى كثيراً ولكن لا أرى أحدا فهم كسقط المتاع، موتهم وحياتهم سواء.
وفيهم يقول ابن الجوزي رحمه الله تعالى: لا يدرون لمَ خلقوا، ولا المراد منهم، وغاية همتهم حصول بغيتهم من أغراضهم، ولا يسألون عند نيلها ما اجتلبت لهم من ذم.
يعني: أنه حتى لو نال شهوته ومراده مع الذم فإنه يقول: ليس مهماً، المهم أن أعيش وأنال ما أريد من مقاصدي، وحتى ل