أبو محمد الترجمان في بداية بحثه عن الدين الحق

قال: فسكنت في كنيسة لقسيس كبير السن عندهم، وكبير القدر اسمه نقلاو مرتيل، وكانت منزلته فيهم بالعلم والدين والزهد رفيعة جداً، انفرد بها في زمنه عن جميع أهل دين النصرانية، فكانت الأسئلة في دينهم ترد عليه من الآفاق من جهة الملوك وغيرهم، ويصحب الأسئلة من الهدايا الضخمة ما هو الغاية -يعني النهاية- في بابه، ويرغبون في التبرك به وفي قبوله لهداياهم، ويتشرفون بذلك، فقرأت على هذا القسيس علم أصول النصرانية وأحكامه.

ولم أزل أتقرب إليه بخدمته والقيام بكثير من وظائفه حتى صيرني من أخص خواصه، وانتهيت في خدمتي له وتقربي إليه إلى أن دفع إلي مفاتيح مسكنه وخزائن ملكه ومأكله ومشربه، وصير جميع ذلك كله على يدي، ولم يستثن من ذلك سوى مفتاح بيت صغير بداخل مسكنه كان يخلو فيه بنفسه، والظاهر أنه بيت خزانة أمواله التي كانت تهدى إليه، والله أعلم.

فلازمته على ما ذكرت من القراءة عليه، والخدمة له عشر سنين، ثم أصابه مرض يوماً من الدهر، فتخلف عن حضور مجلس طلابه، وانتظره أهل المجلس وهم يتذاكرون مسائل من العلوم، إلى أن أفضى بهم الكلام إلى قول الله عز وجل على لسان نبيه عيسى عليه السلام في الإنجيل: إنه يأتي من بعده نبي اسمه (الفارقليط).

وهو -أعني أبا محمد الترجمان - هنا ليس مخطئاً عندما قال: (قول الله عز وجل على لسان نبيه عيسى في الإنجيل)؛ لأن هذا قد علمنا قطعاً ما يؤيد صحته، وأنه مما لم تتناوله أيدي التحريف، فكلمة (الفارقليط) الترجمة الحرفية لها بالضبط هي (أحمد) صيغة أفعل التفضيل من (حمد)، ونحن نعلم أن المسيح عليه السلام بشر بالرسول عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف:6]، فلذلك ما جاوز الصواب في قوله: (قول الله عز وجل على لسان نبيه عيسى عليه السلام في الإنجيل: إنه يأتي من بعده نبي اسمه: (الفارقليط)).

وهذه الكلمة -في الحقيقة- تستحق بحثاً مفرداً، لكن باختصار شديد نقول: إن هذه الكلمة أزعجت النصارى جداً، حتى إنهم انتهى الأمر بهم في التراجم المتأخرة في العصور الأخيرة إلى أن يحرفوها تماماً إلى معانٍ أخرى مثل (المعزي) أو (المخلص) أو غير ذلك من هذه العبارات المعروفة عندهم الآن؛ لأنهم يعرفون تماماً أن كلمة الفارقليط يستدل بها المسلمون على أن معناها في اللغة اليونانية القديمة (أحمد) بنفس الحرف الذي في اسمه، فأرهقتهم الكلمة كثيراً، وكما هي عادتهم في التحريف في الطبعات الجديدة نزعوا كلمة (الفارقليط) ووضعوا مكانها لفظاً آخر يزعمون أن معناه (المعزي) أو (المخلص) إلى غير ذلك، ومعروف أن كلمة (الفارقليط) قالها المسيح عليه السلام في اللحظات الأخيرة قبل أن يرفع إلى السماء؛ لأنه قال: (لابد أن أمضي؛ لأني إذا لم أمض لم يأتكم الفارقليط) ووصف الرسول الذي سيأتي بعده بصفات دقيقة لا تنطبق إلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فحرفت هذه الكلمة إلى لفظ (فيركليتوس)، وقد حصل نقاش بين الأستاذ عبد الوهاب النجار والدكتور: كلرون بينو حول هذه الكلمة، فيحكي الدكتور: عبد الوهاب النجار في كتابه (قصص الأنبياء) فيقول: ثم قلت له وأنا أعلم أنه حاصل على شهادة الدكتوراة في آداب اللغة اليونانية القديمة ما معنى (فير كليتوس)؟! فأجابني بقوله: إن القسس يقولون: إن هذه الكلمة معناها (المعزي).

فقلت: إني أسأل الدكتور: كلرون بينو الحاصل على الدكتوراة في الآداب اليونانية القديمة ولست أسأل قسيساً.

يعني: أنا أسألك بصفتك خبيراً باللغة اليونانية القديمة، ولست أسأل عن رأي القساوسة في ترجمة هذه الكلمة.

فقال: إن معناها: الذي له حمد كثير.

فقلت: هل ذلك يوافق أفعل التفضيل من حمد؟! فقال: نعم.

فقلت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أسمائه أحمد! فقال: يا أخي! أنت تحفظ كثيراً.

يعني أنه اكتسب هذا التعليم.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015