فلما تخلف القسيس بسبب مرضه في ذلك اليوم عن حضور مجلس أقرانه وانتظره الناس، ولم يحضر أقرانه من القساوسة اضطروا إلى أن يتناقشوا في مسائل من العلوم، إلى أن أفضى بهم الكلام في مناقشة قول الله عز وجل حكاية عن المسيح عليه السلام: (إنه يأتي من بعدي نبي اسمه الفارقليط)، وقد ترجموا هذه الكلمة، ومن المعلوم أن الأعلام لا تترجم، فلو أن شخصاً اسمه سعيد ففي أي لغة يبقى اسمه كما هو، سواءٌ أكانت الكتابة بالعربي، أم بالإنجليزي، أم بالفرنسي، فهم ترجموا كلمة (الفارقليط) إلى معنى آخر غير ما دلت عليه، وفي بداية الأمر ترجموا معناها إلى اللغة اليونانية وجعلوها كلمة (فارقليط) التي تساوي (أحمد)، فهي أفعل تفضيل من صيغة (حمد).
فناقشوا هذه المسألة فيما ناقشوه لما تخلف كبيرهم القسيس، فبحثوا في تعيين هذا النبي من هو من الأنبياء، وقال كل واحد منهم بحسب علمه وفهمه، فعظم بينهم في ذلك مقالهم، وكثر جدالهم، ثم انصرفوا من غير تحصيل فائدة ومن غير الاتفاق على معنى معين لهذه الكلمة، ثم لما رجع إلى القسيس الكبير الذي كان مريضاً قال له: ما الذي كان عندكم اليوم من البحث في غيبتي عنكم، فأخبرته باختلاف القوم في اسم (الفارقليط) وأن فلاناً قد أجاب بكذا، وأجاب فلان بكذا، وسردت له أجوبتهم، فقال لي: وبماذا أجبت أنت؟! فقلت: بجواب القاضي فلان في تفسيره للإنجيل.
فقال: قصرت وقربت! وفلان أخطأ، وكاد فلان أن يقارب، ولكن الحق خلاف هذا كله؛ لأن تفسير هذا الاسم الشريف لا يعلمه إلا العلماء الراسخون في العلم، وأنتم لم يحصل لكم من العلم إلا القليل.
فبادرت إلى قدميه أقبلهما، وقلت له: يا سيدي! قد علمت أني ارتحلت إليك من بلد بعيد، ولي في خدمتك عشر سنين، حصلت عنك فيها من العلوم جملة لا أحصيها، فلعل من جميل إحسانكم أن تمنو علي بمعرفة هذا الاسم، فبكى الشيخ وقال لي: يا ولدي! والله لأنت تعز علي كثيراً من أجل خدمتك لي وانقطاعك إلي، وفي معرفة هذا الاسم الشريف فائدة عظيمة، لكني أخاف أن يظهر ذلك عليك، فتقتلك عامة النصارى في الحين -فوراً سوف يقتلونك- فقلت له: يا سيدي! والله العظيم وحق الإنجيل ومن جاء به لا أتكلم بشيء مما تسره إلي إلا عن أمرك، فقال لي: يا ولدي! إني سألتك في أول قدومك علي عن بلدك، وهل هو قريب من المسلمين، وهل يغزونكم أو تغزونهم، لأختبر ما عندك من المنافرة للإسلام، يعني: حتى أكتشف حساسيتك وعداءك ونفورك من دين الإسلام.
فاعلم يا ولدي أن (الفارقليط) هو اسم من أسماء نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم، وعليه نزل الكتاب الرابع المذكور على لسان دانيال عليه السلام، وأخبر أنه سينزل هذا الكتاب عليه، وأن دينه هو دين الحق، وملته هي الملة البيضاء المذكورة في الإنجيل، فطبعاً واضح جداً من هذا الكلام أن هذا القسيس يؤمن برسالة النبي صلى الله عليه وسلم، ويعرف أوصافه الموجودة في التوراة والإنجيل.
وهذه من الحقائق المعروفة أن علماء أهل الكتاب يعرفون جيداً الرسول صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم، ولذلك قال تبارك وتعالى: {فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} [يونس:94]، وأشار الإمام الجويني رحمه الله تعالى حينما تكلم على هذه الآية الكريمة إلى قول صاحب الكشاف الذي قال: والمعنى أن الله تعالى قدم ذكر بني إسرائيل وهم قراء الكتاب، ووصفهم بأن العلم قد جاءهم؛ لأن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مكتوب عندهم في التوراة والإنجيل، وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم إلى آخر القول.
فالغرض: وصف الأحباب بالرسوخ في العلم بصحة ما أنزل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، المهم قال هذا الرجل: اعلم يا ولدي أن (الفار قليط) هو اسم من أسماء نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم، وعليه نزل الكتاب الرابع، المذكور على لسان دانيال عليه السلام.
ورؤية دانيال هذه من الرؤى المشهورة جداً، ولها شأن عظيم، الكلام فيها يطول لكن باختصار شديد فيها أوصاف تنطبق في منتهى الدقة على شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأخبر أنه سينزل هذا الكتاب عليه، وأن دينه هو دين الحق، وملته هي الملة البيضاء المذكورة في الإنجيل، قلت له: يا سيدي! وما تقول في دين هؤلاء النصارى؟! فقال لي: يا ولدي! لو أن النصارى أقاموا على دين عيسى الأول لكانوا على دين الله؛ لأن عيسى وجميع الأنبياء دينهم دين الله عز وجل، ولكنهم بدلوا وكفروا، فقلت له: يا سيدي! وكيف الخلاص من هذا الأمر؟! فقال: يا ولدي! بالدخول في دين الإسلام، فقلت له: وهل ينجو الداخل فيه؟ قال لي: نعم ينجو في الدنيا والآخرة، فقلت: يا سيدي! إن العاقل لا يختار لنفسه إلا أفضل ما يعلم، فإذا علمت فضل دين الإسلام فما يمنعك منه؟! فقال لي: يا ولدي! إن الله تعالى لم يطلعني على حقيقة ما أخبرتك به من فضل الإسلام وشرف نبي أهل الإسلام إلا بعد كبر سني، ووهن جسمي، ولا عذر لنا فيه بل هو حجة الله علينا قائمة، ولو هداني الله لذلك وأنا في سنك لتركت كل شيء ودخلت في دين الحق، وحب الدنيا رأس كل خطيئة، وأنت ترى ما أنا فيه عند النصارى من رفعة الجاه والعز، والترف، وكثرة عرض الدنيا، ولو أني ظهر علي شيء من الميل إلى دين الإسلام لقتلتني العامة في أسرع وقت، وهب أني نجوت منهم وخلصت إلى المسلمين فأقول لهم: إني جئتكم مسلماً فيقولون: قد نفعت نفسك بنفسك بالدخول في دين الحق فلا تمن علينا بدخولك في دين خلصت به نفسك من عذاب الله، فأبقى بينهم شيخاً كبيراً فقيراً ابن تسعين سنة لا أفقه لسانهم، ولا يعرفون حقي، فأموت بينهم جوعاً، انظر كيف ثقلت همته بسبب هذا التلبيس من الشيطان الرجيم؟! لاشك أن ما قاله وما فكر فيه هو خيال فاسد وسوء ظن بخير أمة أخرجت للناس، وجهل أيضاً بسماحة الإسلام ونظامه الاجتماعي الرائع المبني على التكافل والرحمة والإحسان إلى الخلق.
ولو كان كان هؤلاء الخلق باقون على دينهم فيكونون أهل ذمة فلهم من الحقوق ما هو معلوم، فكيف إذا تحول الكافر عن دينه إلى دين الإسلام، هل يظن أن المسلمين يظلمونه أو يحقرونه أو لا يوفونه حقه؟! تأمل ما حكاه أبو عبيد عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى حينما كتب إلى عدي بن أرطأة بالبصرة قال له: وانظر من عندك من أهل الذمة من قد كبر سنه، وضعفت قوته، وولت عنه المكاسب -يعني: لا يستطيع التكسب- فأجر عليه من بيت مال المسلمين ما يصلحه، فلو أن رجلاً من المسلمين كان له مملوك كبرت سنه، وضعفت قوته، وولت عنه المكاسب كان من الحق عليه أن يقوده حتى يفرق بينهما موت أو عتق، وذلك أنه بلغني أنه بلغني أن أمير المؤمنين عمر مر بشيخ من أهل الذمة يسأل على أبواب الناس يتسول فقال: ما أنصفناك إن كنا أخذنا منك الجزية في شيبتك ثم ضيعناك يعني: وهو شاب ثم ضيعناك في كبرك، ثم أجرى عليه من بيت المال ما يصلحه.
وأقوى رد على هذا الظن الفاسد الذين ظنه هذا القسيس هو ما لقيه الترجمان نفسه حينما أسلم من حفاوة ومن تقدير، ومن تكريم من المسلمين، فهذا من تلبيس إبليس على هذا الرجل حينما قال: إذا خلصت من النصارى من محاولتهم قتلي واستطعت أن أصل إلى المسلمين سيقول لي المسلمون: قد نفعت نفسك بنفسك بالدخول في دين الحق، فلا تمن علينا بدخولك في دين خلصت به نفسك من عذاب الله، فأبقى بينهم شيخاً كبيراً فقيراً ابن تسعين سنة، لا أفقه لسانهم، ولا يعرفون حقي فأموت بينهم جوعاً، وأنا والحمد لله على دين عيسى، وعلى ما جاء به يعلم الله ذلك مني.
يعني: أن عيسى رسول وليس هو الله.
فقلت له: يا سيدي! أفتدلني على أن أمشي إلى بلاد المسلمين وأدخل في دينهم؟ فقال لي: إن كنت عاقلاً طالباً للنجاة فبادر إلى ذلك تحصل لك الدنيا والآخرة، ولكن يا ولدي هذا أمر لم يحضره أحد معنا الآن، فاكتمه بغاية جهدك، وإن ظهر عليك شيء منه قتلتك العامة لحينك، ولا أقدر على نفعك إذا قتلوك أو حاولوا أن يؤذوك، أنا لا أستطيع أن أدفع عنك، ولا ينفعك أن تنقل ذلك عني.
يعني: إذا قلت لهم حينئذ إن الذي دلني على هذا هو القسيس فلان فإنك لن ينفعك أن تنقل ذلك عني، فإني أجحده إذا ذكرت ذلك عني وقولي مصدق عليك، وقولك غير مصدق علي، طبعاً سيقبل الناس قولي أنا ويرفضون قولك، وأنا بريء من ذلك إن فهت بشيء من هذا.