القصص في علو الهمة في عصر الصحابة أو من بعدهم كثيرة جداً، ونحن لا نقصد الاستقصاء، وإنما نريد ذكر نماذج من كل عصر من العصور، وسننقل في حديثنا إلى أواخر القرن الثامن الهجري وأوائل القرن التاسع، ونذكر علو همة الشيخ: أبي محمد الترجمان الذي توفي سنة اثنتين وثلاثين وثمانمائة من الهجرة.
فهذا الرجل كان يدعى القسيس إنسلم ترميدا، وكان من أكبر علماء النصارى في القرن الثامن الهجري.
وفي الوقت الذي كان الصليبيون يكرسون جهودهم -بعد طرد المسلمين من ربوع الأندلس- في نشر النصرانية المحرفة في ربوع بلاد الأندلس، بعدما نفي المسلمون من هذا الفردوس المفقود وفي نفس ذلك الوقت شرح الله سبحانه وتعالى صدر رجل من أكبر علماء النصرانية في ذلك الزمان إلى الإسلام، فأسلم وجهه لله، واستقام على طاعة الله عز وجل، وجاهد بيده ولسانه وقلمه في سبيل الله عز وجل، أنه الشيخ: أبو محمد عبد الله بن عبد الله الترجمان، كان قسيساً -كما ذكرنا- يدعى إنسلم ترميدا، اشتهر بـ: الترجمان؛ لأنه لما مضت خمسة أشهر على إسلامه قدمه السلطان في الديوان لقيادة البحر، وكان يقصد من ذلك أن يتعلم اللغة العربية بالتردد على علم الترجمة هناك، أي: في البحر والمناوشات العسكرية الحربية أو التجارية، حتى العلاقات التجارية بين الأسبان وبين العرب كانت تحتاج إلى الترجمة من إحدى اللغتين إلى الأخرى، وكانت تكثر الاحتكاكات بين النصارى والمسلمين.
فأرسله السلطان ليكون مسئولاً في قيادة البحر لأجل أن يتعلم اللغة العربية هناك من خلال هذه الترجمة، فأتقن اللغة العربية في سنة واحدة، وعينه السلطان رئيساً لشئون الترجمة، وكان من ألقابه عند عوام الناس في بلاد المغرب: (سيدي تحفة)، وذلك نسبة إلى كتابه الشهير الذي ألفه بعد إسلامه، وهو الآن مطبوع وموجود، ويسمى (تحفة الأريب في الرد على أهل الصليب) فالعوام اختصروا هذا الموضوع ونسبوا المؤلف إلى هذا الكتاب، فقالوا: سيدي تحفة.
نسبة إلى كتابه (تحفة الأريب)، وأعتقد أن هذه التسمية عند العوام فيها إصابة، فقد أصابوا فيها الحق، بخلاف ما يحصل أحياناً من العوام من انفعالات غريبة جداً، أو أنها تعكس أكثر الألقاب التي يلقونها، ففي أثناء الحرب العالمية كان هتلر يعد أهل مصر خيراً لو تعاونوا معه ضد الإنجليز، فبمجرد أن بدأ هتلر يغازل الشعب المصري ببعض العبارات اللطيفة صار له لقب عند العوام في مصر، حيث سموه (الحاج محمد هتلر) تعبيراً عن أنهم تفاعلوا مع هذه العاطفة التي أبداها تجاههم، فالناس يتحولون بين يوم وليلة! فالسفاح الذي كان بالأمس يقتل ويده ملوثة بالدماء، وتاريخه أسود، وإلى آخر لحظات من عمره وهو في محاربة لله ورسوله وللمؤمنين أصبح يدعى (الحاج محمد هتلر)، ومع ذلك نجد بعض من انحطت هممهم وسفلت نفسيتهم ينقادون ويقادون إلى مثل هذه المهازل التاريخية في الحقيقة، والله المستعان! فالشاهد أن العوام في بلاد المغرب الإسلامي قد أصابوا حينما سموه سيدي تحفة؛ لأنه كان أعظم ما أنجزه هذا الرجل الجليل هو هذا الكتاب الرائع: (تحفة الأريب في الرد على أهل الصليب)، وكان ذلك الكتاب يمثل ضربة قوية لبنيان النصرانية، كتبه عالم من أكبر علماء النصرانية في عصره باعتراف أهلها وشهادتهم، وافتتح هذا الكتاب بذكر قصة إسلامه، وسوف أتلو عليكم هذه القصة كما حكاها هو بنفسه رحمه الله تعالى في مقدمة كتابه.