هذا مجاهد آخر ينتدب نفسه للمهمة الجسيمة، ويمضي نحو همته، ويلح سائلاً مولاه يقول: فيا رب إن حانت وفاتي فلا تكن على شرجع يعلى بخضر المطارف ولكن قبري بطن نسر مقيله بجو السماء في نسور عواسف وأمسي شهيداً خاوياً في عصابة يصابون في فج من الأرض خائف فوارس من بغداد ألف بينهم تقى الله نزالون عند التزاحف إذا فارقوا دنياهم فارقوا الأذى وصاروا إلى ميعاد ما في المصاحف فقوله: فيا رب إن حانت وفاتي فلا تكن على شرجع يعلى بخضر المطارف يعني أنه يدعو الله سبحانه وتعالى بأن لا يموت موتاً عادياً كما يموت سائر الناس، فلا يحب أن يحمل على نعش، فانظر إلى الهمة العالية بدرجة غريبة جداً، فيدعو الله بأن لا تكون وفاته بحيث يحمل على نعش.
فقوله: (يعلى بخضر المطارف) هي أطراف الأيدي، يريد أن علو النعش بجسد وجثته بعد موته يرتفع على أيدي الناس، يقول: هذا دنو همة، فلا أقبل أن أموت على فراشي حتى يرفعني الناس بأيديهم.
يقول: ولكن قبري بطن نسر مقيله بجو السماء في نسور عواسف أي: اجعل قبري بطن النسور، حتى تحلق بي إلى أعلى آفاق السماء، ولا أدفن في الأرض.
يعني أن يكون شهيداً فتأكله النسور وتتخطفه، فترتفع جثته بأيدي النسور إذا أكلتها لا بأيدي الرجال إذا حملوه في النعش، فهو لا يحلق بروحه السامية في فلك الشموخ فحسب، بل بجسده أيضاً، بحيث إن الكفار لا يستطيعون أن يصلوا إلى جثته؛ لأنه استقر في بطون النسور، فيراغم الكفار ويغيظهم ميتاً كما راغمهم حياً.
وهذا بلا شك حري بقول الشاعر: علو في الحياة وفي الممات لحق تلك إحدى المكرمات فهو يبحث عن علو في الحياة وهو حي، وأيضاً إذا مات يبحث عن العلو حتى لا يتمكن الكفار من أن ينالوا جثتة، بل ترتفع إلى آفاق السماء في داخل بطون النسور.
ثم يقول: وأمسي شهيداً خاوياً في عصابة يصابون في فج من الأرض خائف يعني: مطمئن منخفض.
فوارس من بغداد ألف بينهم تقى الله نزالون عند التزاحف أي: شجعان في مقاتلة الأعداء.
إذا فارقوا دنياهم فارقوا الأذى وصاروا إلى ميعاد ما في المصاحف وهي الجنة التي بشر بها الشهداء.
وعن أحمد بن إبراهيم قال: نظر يونس إلى قدميه عند موته فبكى، فقيل له: ما يبكيك يا أبا عبد الله؟! قال: قدماي لم تغبرا في سبيل الله عز وجل.
وهذا الإمام الجليل عبد الله بن المبارك -رحمه الله تعالى- يعقد مقارنة بين من تخلى للعبادة ومن آثر الجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى في قصيدة أرسلها إلى عابد الحرمين الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى يقول له: يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك في العبادة تلعب من كان يخضب خده بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضب أو كان يجري خيله في باطل فخيولنا يوم الكريهة تتعب ريح العبير لكم ونحن عبيرنا رهج السنابك والغبار الأطيب والسنابك: جمع سنبك، وهو طرف السيوف.
ولقد أتانا عن مقال نبينا قول صحيح صادق لا يكذب لا يستوي غبار خيل الله في أنف امرئ ودخان نار تلهب هذا كتاب الله ينطق بيننا ليس الشهيد بميت لا يكذب والإمام ابن حزم الأندلسي رحمه الله تعالى يعبر عن علو همته في الحياة فيقول: مناي من الدنيا علوم أبثها وأنشرها في كل باد وحاضر دعاء إلى القرآن والسنن التي تناسى رجال ذكرها في المحاضر وألزم أطراف الثغور مجاهداً إذا هيعة سارت فأول نافري لألقى حمامي مقبلاً غير مدبر بسمر العوالي والرقاق البواسل كفاح مع الكفار في حومة الوغى وأكرم موت للفتى قتل كافر فيا رب لا تجعل حبالي بغيرها ولا تجعلني من قتيل المقابر يعني: من سكان المقابر.
وهذا الإمام الجليل أبو القاسم محمد بن أحمد المالكي رحمه الله تعالى المتوفي سنة (741) من الهجرة يقول قبل أن يستشهد مباشرة: قصدي المؤمل في جهري وإسراري ومطلبي من إلهي الواحد الباري شهادة في سبيل الله خالصة تمحو ذنوبي وتنجيني من النار إن المعاصي رجس لا يطهرها إلا الصوارم في أيمان كفار فبعد أن أنشد الأبيات قال: أرجو الله أن يعطيني ما سألته في هذه الأبيات.
فأعطاه الله ما تمنى، وقتل في نفس اليوم وهو يقاتل النصارى، بعد أن أبلى في قتالهم بلاء حسناً، رحمه الله وأعلى درجته في الشهداء.
فهذا ما تيسر من النماذج من جهاد السلف الصالح رضي الله تعالى عنهم في إعزاز هذا الدين وعلو همتهم في الجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى.
ولولا هذه الهمة العالية لما ذاع الإسلام وشاع في أقطار الأرض بهذه الطريقة، ولما وصلتنا هذه النعمة، ولما تشرفنا بهذا الشرف العظيم الذي هو شرف الانتماء إلى دين الحق وإلى أمة التوحيد.