بقي الكلام في ميدان آخر من ميادين علو الهمة، وهو علو الهمة في البحث عن الحق، وفيه شيء من الطول، ونقتصر في هذه الكلمات على قصة واحدة من قصص علو الهمة في البحث عن الحق، ونكمل بقية ذلك فيما سيأتي بإذن الله.
حفل التاريخ الإسلامي قديمه وحديثه بنماذج رائعة من المهتدين الذين ارتفعت همتهم في البحث عن الدين الحق، وبذلوا في سبيل ذلك النفس والنفيس، فصاروا مضرب الأمثال، وحجة لله على خلقه أن من انطلق باحثاً عن الحق مخلصاً لله تعالى فإن الله يهديه إليه، ويمن عليه بأعظم نعمة في الوجود، وهي نعمة الإسلام.
ومن هذه النماذج -بل أشهرها- قصة سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه، فقد جلس يوماً تحت داره المتواضعة في المدائن، وأحاط به جلساؤه ينصتون لحديثه ولقصته في البحث عن الحقيقة، وروى لهم كيف ترك دين قومه -الفرس- إلى النصرانية ثم إلى الإسلام، وكيف ضحى في سبيل البحث عن الحقيقة الكبرى بثراء أبيه الباذخ، ورمى نفسه في أحضان الفاقة بحثاً عن خلاص عقله وروحه.
كيف بيع في سوق الرقيق في طريق بحثه عن الحقيقة، كيف التقى برسول الله صلى الله عليه وسلم وكيف آمن به، إنه سلمان الفارسي أو سلمان الخير صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يقول وهو يحكي قصته: كنت رجلاً من أهل أصفهان من قرية يقال لها جي، وكان أبي دهقان أرضها -أي: رئيس القرية-، وكنت من أحب عباد الله إليه، وقد اجتهدت في المجوسية حتى كنت قاطن النار الذي يوقدها ولا يتركها تخمد.
والمجوس الذين يعبدون النار يتركونها مشتعلة باستمرار في مكان العبادة، بحيث لا تنطفئ أبداً، فكان سلمان الفارسي قاطن النار، أي: كان هو القيم على النار، وكان هو موقدها.
يقول: وكان لأبي ضيعة أرسلني إليها يوماً، فخرجت فمررت بكنيسة للنصارى، فسمعتهم يصلون، فدخلت عليهم لأنظر ما يصنعون، فأعجبني ما رأيت من صلاتهم، وقلت لنفسي: هذا خير من ديننا الذي نحن عليه.
فما برحتهم حتى غربت الشمس، ولا ذهبت إلى ضيعة أبي ولا رجعت إليه حتى بعث في أثري.
وسألت النصارى حين أعجبني أمرهم وصلاتهم عن أصل دينهم، فقالوا: في الشام.
وقلت لأبي حين عدت إليه: إني مررت على قوم يصلون في كنيسة لهم فأعجبتني صلاتهم، ورأيت أن دينهم خير من ديننا، فحاورني وحاورته، ثم جعل في رجلي حديداً وحبسني.
وأرسلت إلى النصارى أخبرهم أني دخلت دينهم، وسألتهم إذا قدم عليهم ركب من الشام أن يخبروني قبل عودتهم إليها لأرحل إلى الشام معهم، ففعلوا، فحطمت الحديد، وخرجت وانطلقت معهم إلى الشام، وهناك سألت عن عالمهم، فقيل لي: هو الأسقف صاحب الكنيسة.
فأتيته وأخبرته خبري، فأقمت معه أخدمه وأصلي وأتعلم، وكان هذا الأسقف رجل سوء في دينه، إذ كان يجمع الصدقات من الناس ليوزعها، ثم يكتنزها لنفسه، ثم مات.
وجاءوا بآخر فجعلوه مكانه، فما رأيت رجلاً على دينه خير منه، ولا أعظم رغبة في الآخرة وزهداً في الدنيا، ودأباً على العبادة، وأحببته حباً ما علمت أني أحببت أحداً مثله قبله، فلما حضره قدره -يعني أجله- قلت له: إنه قد حضرك من أمر الله ما ترى، فبم تأمرني؟ وإلى من توصي بي؟ قال: أي بني! ما أعرف أحداً من الناس على مثل ما أنا عليه إلا رجل من الموصل، فلما توفي أتيت صاحب الموصل، فأخبرته الخبر، وأقمت معه ما شاء الله أن أقيم، ثم حضرته الوفاة فسألته، فدلني على عابد في نصيبين، فأتيته فأخبرته خبري، ثم أقمت معه ما شاء الله أن أقيم، فلما حضرته الوفاة سألته، فأمرني أن ألحق برجل في عمورية من بلاد الروم، فرحلت إليه، وأقمت معه، واصطنعت لمعاشي بقرة وغنيمة، ثم حضرته الوفاة.
فانظر إلى الدأب، فكلما يموت واحد يسأله عن غيره ممن يعرفون الحق، كما جاء في الحديث: (إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم كلهم عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب).
قال: ثم حضرته الوفاة، فقلت له: إلى من توصي بي؟ فقال لي: يا بني! ما أعرف أحداً على مثل ما كنا عليه آمرك أن تأتيه، ولكنه قد أظلك زمان نبي يبعث بدين إبراهيم حنيفاً عليه الصلاة والسلام، مهاجره إلى أرض ذات نخل بين حرتين - والحرة: الجبال ذات الحجارة السوداء - فإن استطعت أن تخلص إليه فافعل، وإن له آيات - علامات - لا تخفى، فهو لا يأكل الصدقة، ويقبل الهدية، وبين كتفيه خاتم النبوة، إذا رأيته عرفته.
ومر بي ركب ذات يوم فسألتهم عن بلادهم، فعلمت أنهم من جزيرة العرب، فقلت لهم: أعطيكم بقراتي هذه وغنمي على أن تحملوني معكم إلى أرضكم؟ قالوا: نعم.
واصطحبوني معهم، حتى قدموا بي وادي القرى، وهناك ظلموني وباعوني إلى رجل من اليهود، وظفرت بنخل كثير بوادي القرى، فطمعت أن تكون هي البلدة التي وصفت لي، والتي ستكون مهاجر النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنها لم تكنها، وأقمت عند الرجل الذي اشتراني، حتى قدم عليه يوماً رجل من يهود بني قريظة، فابتاعني منه، ثم خرج بي حتى قدمت المدينة، فوالله ما هو إلا أن رأيتها حتى أيقنت أنها البلد التي وصفت لي.
وأقمت معه أعمل له في نخله في بني قريظة، حتى بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم، وحتى قدم المدينة ونزل بقباء في بني عمرو بن عوف، وإني لفي رأس نخلة يوماً وصاحبي جالس تحتها إذ أقبل رجل من يهود من بني عمه فقال يخاطبه: قاتل الله بني قيلة -يقصد الأنصار-! إنهم ليتخاطفون.
يعني: يتتابعون ويجتمعون ويتزاحمون استعداداً لحدث خطير جداً وهو استقبال الرسول صلى الله عليه وسلم، قال: قاتل الله بني قيلة! إنهم ليتخاطفون على رجل بقباء قادم من مكة يزعمون أنه نبي.
فوالله ما هو إلا أن قالها حتى أخذتني العرواء -رعشة الحمى- فرجفت النخلة -أي: من الارتعاش الذي أصابه- حتى كدت أسقط فوق صاحبي.
ثم نزلت سريعاً وقلت: ما الخبر؟! فرفع سيدي يده ولكزني لكزة شديدة، ثم قال لي: مالك ولهذا، أقبل على عملك.
فأقبلت على عملي، ولما انتهيت جمعت ما كان عندي من التمر، ثم خرجت حتى جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء، فدخلت عليه ومعه نفر من أصحابه، فقلت له: إنكم أهل حاجة وغربة، وقد كان عندي طعام نذرته للصدقة، فلما ذكر لي مكانكم رأيتكم أحق الناس به، فجئتكم به.
ثم وضعته، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه: كلوا باسم الله، وأمسك هو فلم يبسط إليه يده.
فقلت في نفسي: هذه -والله واحدة-، إنه لا يأكل الصدقة.
ثم رجعت وعدت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في اليوم التالي أحمل طعاماً، فقلت للرسول صلى الله عليه وسلم: إني رأيتك لا تأكل الصدقة، وقد كان عندي شيء أحب أن أكرمك به هدية، ووضعته بين يديه، فقال لأصحابه: كلوا باسم الله.
وأكل معهم، فقلت لنفسي: هذه -والله- الثانية، إنه يأكل الهدية.
ثم رجعت، فمكثت ما شاء الله، ثم أتيته، فوجدته في البقيع قد تبع جنازة وحوله أصحابه، وعليه شملتان مؤتزراً بواحدة، ومرتدياً الأخرى -كان يلبس إزاراً ورداء على كتفه كلبس الحجاج في الإحرام- فسلمت عليه، ثم استدرت لأنظر أعلى ظهره، فعرف أني أريد ذلك -أي: عرف الرسول عليه السلام أن سلمان يبحث عن خاتم النبوة بين كتفيه- فألقى بردائه عن كاهله، وكشف له ظهره صلى الله عليه وآله وسلم، قال: فإذا العلامة بين كتفيه خاتم النبوة كما وصفه لي صاحبي، فأكببت عليه أقبله وأبكي.
ثم دعاني صلى الله عليه وسلم فجلست بين يديه، وحدثته حديثي كما أحدثكم الآن.
فمن أين عرف ذلك الأسقف؟! عرف ذلك من كتبهم، ومازالت علامة خاتم النبوة مذكورة في التوراة وفي الإنجيل إلى اليوم رغم التحريف الذي وقع، والنص موجود في كتاب النصارى المقدس فيه إخبار عن شخص يأتي بالنبوة علامته بين كتفيه، فربما تكون هذه النسخ حذفت فيها العلامات المفصلة؛ لأن فيه تفصيلات أخرى، مثل كونه كبيض الحجلة وعليه شعيرات قليلة.
ثم يقول سلمان: ثم أسلمت، وحال الرق بيني وبين شهود بدر وأحد، وفي ذات يوم قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (كاتب سيدك حتى يعتقك، فكاتبته)، وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم الصحابة أن يعاونوني، وحرر الله رقبتي، وعشت حراً مسلماً، وشهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزة الخندق والمشاهد كلها.
فبهذه الكلمات تحدث سلمان الفارسي عن رحلته الزكية النبيلة العظيمة في سبيل بحثه عن الحقيقة العظمى التي تصله بالله وترسم له دوره في الحياة، فأي إنسان شامخ كان هذا الإنسان! أي تفوق عظيم أحرزته روحه الطيبة، وفرضته إرادته الغلابة على المصاعب، فقهرت المستحيل فجعلته ذلولاً! أي تمثل للحقيقة وأي ولاء لها هذا الذي أخرج صاحبه طائعاً مختاراً من متاع أبيه وثرائه ونعمائه إلى المجهول بكل أعبائه ومشاقه، ينتقل من أرض إلى أرض، ومن بلد إلى بلد، ناصباً كادحاً عابداًَ! تفحص بصيرته الناقدة الناسَ والمذاهبَ والحياةَ، ويظل في إصراره العظيم وراء الحق، وتضحياته النبيلة من أجل الهدى حتى يباع رقيقاً، ثم يثيبه الله ثوابه الأوفى فيجمعه بالحق، ويلاقيه برسوله صلى الله عليه وسلم، ثم يعطيه من طول العمر ما يشهد معه بكلتا عينيه رايات الله تخفق في كل مكان من الأرض، وعباده المسلمين يملئون أركانها وأنحاءها هدى ورحمة وعدلاً.