إننا إذا أردنا أن نتكلم عن حال الأمة عند صدق الهمم لا نحتاج إلى الكلام؛ لأنه واقع نعيشه بكل مرارته، فيكفي أن القدس تضيع رسمياً بهذه الصورة، والناس ليس على بالهم على الإطلاق موضوع القدس التي ضاعت أو كادت بصورة مذلة ومهينة، حتى كأنه لم تعد تتحرك شعرة في بلاد المسلمين لهذه المصيبة ولهذه المذلة ولهذا الهوان.
فانظر إلى صلاح الدين الأيوبي رحمه الله تعالى، يقول القاضي ابن شداد: كان رحمه الله عنده من أمر القدس أمر عظيم لا تحمله الجبال، فهو كالوالدة الثكلى -أي: الأم التي مات ابنها- من الحزن على بيت المقدس، يجول بنفسه من طلب إلى طلب، ويحث الناس على الجهاد، وينادي: يا للإسلام! وعيناه تذرفان الدموع.
ونظر صلاح الدين الأيوبي رحمه الله إلى أمواج البحر الهادرة، ثم التفت إلى القاضي ابن شداد وقال: ألا أخبرك شيئاً في نفسي: إنه متى يسر الله تعالى فتح بقية الساحل قسمت البلاد ووطيت ووسعت، وركبت هذا البحر إلى جزائله، وأتبعتهم - يعني: الصليبيين - فيها - يعني: في ديارهم في أوروبا - حتى لا أبقي على وجه الأرض من يكفر بالله أو أموت.
فهذه هي همة صلاح الدين الأيوبي رحمه الله تعالى.
وبعد وقعة حطين التي هزم فيها صلاح الدين الأيوبي -رحمه الله- هؤلاء الصليبيين هزيمة منكرة باع بعض الفقراء من المسلمين أسيراً بنعل، فقيل له في ذلك فقال: أردت هوانهم.
يعني أن الأسير الكافر يساوي عندي نعلاً.
ويمكن أن يأخذ فيه مالاً أكثر من ذلك إذا بيع عبداً، لكن قال: أردت هوانهم.
فتأمل ذلك المشهد المرير الذي حصل أثناء حرب الخليج، حيث وقف الجندي العراقي يقبل حذاء الجندي الأمريكي، والله أعلم بحقيقة هذا الأمر، في كونه تمثيلاً أو غير تمثيل، لكن يكفي هذا الأمر الأليم، حيث يقبل قدم الجندي الأمريكي، ولا حول ولا قوة إلا بالله! وحكى بعضهم بعد حطين أنه لقي بحوران رجلاً واحداً ومعه صلب خيمة -أي: عمود خيمة- قد ربط فيه نيفاً وثلاثين أسيراً يجرهم وحده، فهو وحده أسر ثلاثين من الصليبيين يجرهم في هذه الخشبة وقد ربطهم بها للخذلان الذي وقع عليهم.
وقال عماد الكاتب في حصاد موقعة حطين: فمن شاهد القتلى يومئذ قال: ما هناك أسير، ومن عاين الأسرى قال: ما هناك قتيل.
يعني من كثرة أعداد الأسرى والقتلى.