وأما غربة الغرباء التي ذكرت في قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (طوبى للغرباء) فالمقصود بها: الغربة بالنسبة للواقع من حولهم؛ لأن الغريب هو الشخص الذي يعيش في بلد ليس له فيها أهل، أو أهله فيها قليلون، هذه هي الغربة، فقوله عليه الصلاة والسلام: (إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود كما بدأ غريباً) يعني: ندرة الحق في وسط أمواج الضلال، فهم نادرون وقلة بين غثاء ضال، أما في عالم الضمير والشعور فإن للمؤمن الفرد من إيمانه أنيساً ورفيقاً وخليلاً يبعد هذا الشعور بالاغتراب في الناحية الوجدانية والقلبية ولا يجد الغربة، لكنه من حيث العدد هو غريب، لكن من حيث تمسكه واستيثاقه من الحق الذي بين جنبيه ليس غريباً بل يأنس بالله سبحانه وتعالى.
والمسلمون الآن ليسوا آحاداً ولا عشرات ولا مئات حتى ولا آلافاً، بل المسلمون على وجه الأرض عدد كبير، بل كثير ولا حول ولا قوة إلا بالله، ولكنهم كغثاء السيل إلا ما رحم الله، ومع كثرتنا نحن ننهزم أمام الباطل ونتأثر بالحملات الملحدة على دين الله سبحانه وتعالى، ولو أننا حققنا هذا المعنى واستصحبنا هذه المفاهيم لما عانينا هذا العناء الذي نبالغ في الانفعال والتأثر به بصورة لا تليق بنا، فبعض الإخوة ينزعجون من ذلك، وأذكر أن بعض الإخوة كانوا قد جاءوا إلي كل على حدة بمجموعة من الصفحات من جريدة الضرار ولسان حال الملاحدة جريدة روز اليوسف، كلها طعن وشتم في الإسلام صراحة، وطعن مباشر في دين الله وسخرية من الدين، فقلت لهم: ما بالكم تنشغلون بهذا الباطل؟ وهل نحن كلما جاء أحدهم يقول نكتة ويقول: أنا أتيت بلعبة فيها لحية لابني يلعب بها أو يسخر من المنقبات أو يطعن في شريعة الله نقوم ونرد عليه؟ فهذا ليس شغلنا، فلدينا ما هو أهم، والله سبحانه وتعالى قال: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199] وإن لم يكن هؤلاء هم الجاهلون فمن الجاهلون؟! فليس معقولاً أن كل من يلقي إلينا بصخرة نقف معه ونرد عليه ونناقش باطله، فأقوى ما يرد به على هؤلاء أن يعرض عنهم.
وقد سمعت أن هناك تمثيلية جديدة أيضاً كمسلسل العائلة من قبل فيها نفس الشيء من السخرية بالدين؛ وهذه هي أساليب الباطل، ويكفي أن الباطل يعلن عن نفسه بهذه الطريقة، فهذا هو أسلوبه وهذا هو منهجه وهذا هو ضعفه؛ لأن كل هذه تصرفات الضعفاء، فهم يتصرفون تصرفات الشتائم والقدح والقذف والألفاظ البذيئة والماجنة والكذب والتلفيق والدجل، فيكفي أن الباطل يفضح نفسه ويكشف سوآته بهذه الأساليب، فينبغي أن نتسامى عن أن ننزل إلى هذا المستوى، وليس كل واحد يعمل شيئاً نرد عليه؛ لأنهم لا يستحقون ذلك، كما قال رجل طيار مرة -طيار ليس مصرياً-: تعلمت في الطيران أنني إذا خرجت أطلب هدفاً معيناً فمهما حصل من المقاومة الأرضية لا أرد عليها؛ لأنه إذا كان أي واحد يلقي بقذيفة ينشغل بالرد عليه سيتخلف عن هدفه الأسمى الذي يقصده، فإذا حددت لك هدفاً: الدعوة، التربية، التعلم، العبادة، الجهاد، أي هدف من هذه المقاصد، فامض في طريقك ولا تتلفت إلى الصبية الصغار الذين يقذفونك بالحجارة، وإلا لأصبح الأمر كما قال الشاعر: لو كل كلب عوى ألقمته حجراً لأصبح الصخر مثقالاً بدينار فالشاهد: أنه ينبغي ألا ننشغل بهؤلاء، فهؤلاء هم الذين قال فيهم: {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [النجم:29]، وقال سبحانه: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى * فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى} [طه:15 - 16]، وقال تعالى: {أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ} [البقرة:221]، وهؤلاء هم الذين وصفهم الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: (دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها)، ويكفي أن هؤلاء الملاحدة، ملاحدة روز اليوسف، يأكلون على كل الموائد، فهم فيما مضى كانوا مع الاشتراكية ومع الشيوعية ويمشون مع أي مذهب، المهم أن تكون جبهة مضادة للإسلام، هذه هي رسالتهم في الحياة، فهم أحقر وأذل وأصغر من أن نتكلف الرد عليهم ونأتي بكلامهم البذيء ونتعقبه؛ لأن ذلك في الحقيقة إسفاف وهبوط إلى مستوى يليق بالباطل، أما الحق فلا يتنزل إلى هذا الانحطاط وهذا المستوى الدنيء، ولذا لا ينبغي أن نضيع وقتنا معه، ولنعرض عنهم كما قال عز وجل: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199] فهؤلاء هم الجاهلون، وهؤلاء هم الذين قال الله فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ} [المطففين:29] فرب العزة سبحانه وتعالى لما يصف قوماً بأنهم مجرمين ماذا تريد أنت بعد ذلك؟! وستصبح كل هذه الابتلاءات ذكريات، فالزمن يمضي ويمر والعمر يمضي سريعاً وينقضي كل ما على وجه الأرض، ثم يصبح كل شيء مجرد ذكرى، قال عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ * وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ * فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المطففين:29 - 36].
وقال تبارك وتعالى: {قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ * إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ * إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} [المؤمنون:108 - 111]، وهذا بما صبروا فلابد من الصبر، قال عز وجل: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كثيراً} [آل عمران:186] فمن عزم الأمور أن نصبر وأن نتقي، ومن الصبر ألا نضيع أوقاتنا في تتبع هذه الأشياء، وأنا أصلاً أسأل: لماذا الأخ يشتري مجلة روز اليوسف؟! هل هذه المجلة الملحدة الماجنة تدخل بيت مسلم؟! ألا تستحضر أنك ستسأل عن المال الذي تشتري به هذه المجلة وعن الصور القبيحة التي فيها؟! فيكفي الباطل أنه لا يحتاج إلى تعرية؛ لأنه عارٍ بادية سوآته، ولا يحتاج إلى من يسقطه أو يفضحه، فينبغي ألا ننشغل به وأن نمضي في طريقنا ولا نبالي بهذه المناهضة لدين الله سبحانه وتعالى.