كبير الهمة هو الشخص الذي يتحرى الفضائل ومعالي الأمور على الإطلاق لا للذة ولا لثروة ولا لاستشعار نخوة ولا لغرض الاستعلاء على البرية وعلى خلق الله، لكنه يتحرى مصالح العباد شاكراً بذلك نعمة الله وطالباً به مرضاته غير مكترث بقلة مصاحبيه، فإنه إذا عظم المطلوب قل المساعد، وطرق العلى قليلة الإيناس، فإذا عظم المطلوب وكان الهدف والغاية عالية وشريفة كلما قل من يساعدك ويستمر معك في المسير إليه، فلذلك طرق العلى قليلة الإيناس، يعني: أنها تكون موحشة لقلة السالكين.
يقول الشاعر: أهم بشيء والليالي كأنها تطاردني عن كونها وأطارد فريد عن الخلان في كل بلدة إذا عظم المطلوب قل المساعد عن ابن جدعان قال: (سمع عمر رجلاً يقول: اللهم اجعلني من الأقلين.
فقال: يا عبد الله! وما الأقلون؟ قال: سمعت الله يقول: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود:40]، {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13]، وذكر آيات أخر، فقال عمر: كل أحد أفقه من عمر).
وقال سفيان بن عيينة: اسلكوا سبل الحق ولا تستوحشوا من قلة أهلها.
وقال الفضيل بن عياض رحمه الله: الزم طريق الهدى ولا يضرك قلة السالكين، وإياك وطرق الضلالة ولا تغتر بكثرة الهالكين.
وقال سليمان الداراني: لو شك الناس كلهم في الحق ما شككت فيه وحدي، أي: لو كل من على ظهر الأرض شكوا في الحق ولم يؤمنوا به أو لم يعملوا له ما شككت فيه وحدي، ولبثت أنا وحدي على هذا الحق.
وقال بعض الصالحين: انفرادك في طريق طلبك دليل على صدق الطلب.
فعالي الهمة يترقى في مدارج الكمال بحيث يصير لا يأبه بقلة السالكين ووحشة الطريق؛ لأنه يحصل مع كل مرتبة يرتقي إليها من الأنس بالله ما يزيل هذه الوحشة، وإلا انقطع به السبيل.
والسالك إلى الله سبحانه وتعالى كلما ارتفع درجة يحصل له أمران: الأمر الأول: أنه يشعر بالمزيد من الوحشة؛ لأن رواد الطريق يقلون؛ فكلما كان الهدف أقرب والهمة أعلى والهدف أسمى يقل الناس؛ لأن الناس معظمهم يشتغلون بسفاسف الأمور وبالدنيا، أما هو فكلما ارتقى في مطلبه كلما وجد وحشة، ولكن هذه الوحشة تزول؛ لأنه كلما ترقى في الإيمان كلما يناله من الأنس بالله ما يلاشي هذه الوحشة.
ويوضح هذا معرفة مراتب الدين الثلاثة، كما جاء في حديث جبريل حينما سأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن الإسلام والإيمان والإحسان، فالإسلام أخص من الإيمان من حيث المعنى، لكنه أعم من حيث الأفراد، والإيمان أخص من الإحسان من حيث المعنى لكنه أعم من حيث المعنى، بمعنى أن كل محسن مؤمن وكل مؤمن مسلم، ولكن ليس كل مسلم مؤمناً ولا كل مؤمن محسناً.
فهذه المراتب درجات ودرجات، وكلما ارتفع السالك درجة شعر بقلة في السالكين، فإذا لم يكن قد حصل مع ارتفاع كل درجة من الأنس بالله بقدر شعوره بقلة السالكين في هذه الدرجة فإنه يستولي عليه الشعور بالوحشة، فأحسن أحواله حينئذٍ أن ينقطع عن الرقي أو يمله، وهو بذلك مغبون، وإما أن يعود القهقرى، لكن إذا لم ييأس وعاود السير فإنه يربح فلا يخسر أبداً، فإن أول ثمرات العزة الإيمانية التي يحسها بها المؤمن إدراكه ما في الإسلام من قوة الحقيقة التي يكفي لكي تعلن عن نفسها أن تتمثل في فرد واحد، فإن الحق لا يعرف بكثرة العدد كما قال الشاعر: تعيرنا أنا قليل عديدنا فقلت لها: إن الكرام قليل وما ضرنا أنا قليل وجارنا عزيز وجار الأكثرين ذليل فالكثرة هنا في ميزان الحق لا قيمة لها ولا وزن لها، فحقيقة الإسلام حقيقة عظمى في هذا الوجود يكفي كي تعلن عن نفسها بصورة صادقة أن تتمثل ولو في شخص واحد فقط، يقول تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا} [النحل:120] فيكفي لهذه الحقيقة القوية أن تعلن عن نفسها حتى في شخص وفي فرد واحد، وليست مثل الآراء الجاهلية المخالفة المكونة من زيف الباطل واحتياجها إلى سواد كثير وعدد كبير من الأفراد، فإننا نجد في المناهج الباطلة المعادية للإسلام العدد الكبير والصوت العالي والضجيج وتكاتف عدد كبير جداً من الأفراد والهيئات وغير ذلك، وأي شخص ساذج يأسره هذا المنظر وهذا البهاء وهذا الصدى العالي، تأسره الكثرة وتأسره البهرجة وهذه الأشياء فيغتر وينطلي زيف الباطل عليه دون أن يدرك ما هم فيه من الضلال، فهذه المظهرية هي مقياس الحق والباطل عندهم، فمن كان معه القوة والعدد الأكثر والصوت العالي فهو المحق عندهم، ومن ثم نجد كثيراً من المنهزمين من أبناء المسلمين الآن ينبهرون تماماً بما عليه الكفار في الغرب أو في الشرق بما يسمونه بحضارة وعمران وتقدم وكذا وكذا، بل قد لا يكتفي بالانبهار بما تفوقوا فيه من الحضارة المادية، وإنما قد ينتكس في إيمانه وفي دينه فينظر إليهم على أنهم أهدى من الذين آمنوا سبيلاً، وأن كل شيء عند هؤلاء القوم ينبغي أن نأخذه وأن نتبعهم فيه دون تمحيص، فهو غره هذا البهرج وهذا الزخرف وهذه المناظر، وانطلى زيف الباطل عليه دون أن يدرك ما هم فيه من الضلال، لكن الحق لا يحتاج إلى هذا، فممكن أن شخصاً واحداً يتمثل فيه الحق بصورة كاملة وحقيقية، فمن هنا رأينا الأمة الإسلامية تمثلت أكثر من مرة بمؤمن واحد فقط، كما قال تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا} [النحل:120].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: أي: كان مؤمناً وحده وكان الناس كفاراً جميعاً.
وفي صحيح البخاري أنه عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام قال لزوجته سارة: (يا سارة! ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك).
ثم تمثلت هذه الدعوة دعوة الإسلام أيضاً برسول الله صلى الله عليه وسلم وحده، حيث كان هو الوحيد على وجه الأرض الذي يتمثل فيه دعوة الحق كاملة في أولى مراحل هذه الدعوة.
فعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد، وأخفت في الله وما يخاف أحد -يعني: أنه لم يكن ثم مسلم غيره- ولقد أتت علي ثلاثون من بين يوم وليلة وما لي ولـ بلال طعام يأكله ذو كبد إلا شيء يواريه إبط بلال).
فإذا كان المؤمن الحق كبير الهمة فإنه يتحدى العالم كله ويتحدى كل من على ظهر الأرض بإيمانه ولا يتزعزع، كما قال ذلك العالم الجليل: لو شك الناس كلهم في الحق ما شككت فيه وحدي، فمن ثم تبنى الأمم بهمم هؤلاء الرجال، فممكن أن أمة بكاملها ينقذها شخص واحد، وممكن أن أمة بكاملها مهما أصابها من التدهور والانحطاط يحيي دينها ودعوتها مجدد واحد كما أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لذلك إذا امتن الله على هذه الأمة بهؤلاء الأفراد الأفذاذ فإن الطريق يختصر جداً وتصلح بصلاحهم أمم من الناس، فمن ثم ينسد باب شعور المؤمن بالغربة، فالمؤمن الحقيقي لا يعاني من هذه الغربة الإيمانية؛ لأنه يمثل الإيمان والحقيقة، ولذا يشعر بأن الناس جميعاً وهم في ضلالهم هم الغرباء التائهون، ولذلك لما توهم واهم فوصف عبد الوهاب عزام الشاعر الشهير بالغربة كان جوابه سريعاً حيث قال: قال لي صاحب: أراك غريباً بين هذا الأنام دون خليل قلت: كلا بل الأنام غريب أنا في عالمي وهذي سبيلي يعني: لست أنا الغريب بل هم الغرباء حتى ولو كانوا كثرة؛ لأن الغربة الحقيقية هي الغربة عن الحق.