من خصائص الإنسان الكبير الهمة أنه ليس كالناس أو ليس كسائر الناس فيما هم فيه في كل أحواله حتى في ندمه، فننظر الآن علامَ يندم كبير الهمة؟ وما هي الأشياء التي تجعل كبير الهمة يندم؟ فكبير الهمة كائن متميز في كل خصائصه حتى في ندمه، فبينما يندم خسيس الهمة لفوات لذاته، أو يتحسر لفراق شهواته فإن لكبير الهمة شأناً آخر حتى وهو يندم، كما تنبئ عنه المواقف التالية: فهو يتحسر على ساعة مرت به في الدنيا، لا لأنه عصى الله فيها وإنما لأنه لم يعمرها بذكر الله عز وجل.
هذا أول شيء من الأشياء التي يتحسر عليها كبير الهمة إذ لا يندم على ذهاب شيء من أعراض الدنيا، وإنما يندم أكثر ما يندم على ساعة مرت به لم يذكر فيها الله عز وجل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس يتحسر أهل الجنة على شيء إلا على ساعة مرت بهم لم يذكروا الله عز وجل فيها) هذا هو الشيء الوحيد الذي يتندمون عليه، مع أن الجنة لا نصب فيها ولا حسرة ولا ندم ما عدا على هذه فقط، فأهل الجنة فقط يذوقون الحسرة على ساعة مرت بهم في الدنيا لم يذكروا فيها الله عز وجل.
كان عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما يصلي على الجنازة ثم ينصرف، فلما بلغه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من اتبع جنازة مسلم إيماناً واحتساباً حتى يصلى عليها فله قيراط، ومن شهدها حتى تدفن، وفي رواية: حتى يفرغ منها، فله قيراطان من الأجر.
قيل: يا رسول الله! وما القيراطان؟ قال: مثل الجبلين العظيمين، وفي رواية قال: كل قيراط مثل أحد)، وكان ابن عمر قد أخذ قبضة من حصى المسجد يقلبها في يده وهو جالس فلما بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال هذا الحديث ضرب بالحصى الذي كان في يده الأرض تعبيراً عن الندم ثم قال: (لقد فرطنا في قراريط كثيرة)، فندم على ما مضى حيث إنه كان أحياناً إما أنه لا يحضر الجنازة وإما أنه يحضر فقط ولا يبقى حتى تدفن فحرم من هذه القراريط.
وهذا سيف الله المسلول خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه يتحسر لموته على فراشه، فقد قال لما حضرته الوفاة: (لقد شهدت كذا وكذا زحفاً، وما في جسدي موضع إلا وفيه ضربة سيف أو طعنة رمح أو رمية سهم، ثم هأناذا أموت على فراشي حتف أنفي كما يموت البعير فلا نامت أعين الجبناء).
فتصور كيف يندم على أنه طلب الشهادة في كل مظانها وخاض الحروب والجهاد في سبيل الله رجاء أن ينال الشهادة في سبيل الله ولكن الله سبحانه وتعالى كتب له أن يموت على فراشه، فهو يندم على ذلك ويشبه موته بموت البعير الذي يموت حتف أنفه، ثم يقول: (فلا نامت أعين الجبناء) يعني: أنه يدعو على الجبناء الذين يخافون أن يخرجوا للجهاد خشية الموت، فيقول: إنني خضت كل هذه المعارك ومع هذا لا أموت إلا على فراشي.
وكان أبو محجن الثقفي مولعاً بالشراب مشتهراً به، وكان سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه قد حبسه بسبب شربه الخمر، فلما كان يوم القادسية وبلغه ما يفعل المشركون بالمسلمين وهو عند أم ولد لـ سعد، قال هذا الشعر: كفى حزناً أن تطعن الخيل بالقنا وأترك مشدوداً علي وثاقيا أي: أنه يندم على أنه كان متخلفاً عن الجهاد والمسلمون يلاقون عدوهم في القادسية، ولذا قال: كفى حزناً أن تطعن الخيل بالقنا وأترك مشدوداً علي وثاقيا إذا قمت عناني الحديد وغلقت مغاليق من دوني تصم المناديا وقد كنت ذا أهل كثير وإخوة فقد تركوني واحداً لا أخا ليا أريني سلاحي لا أبا لك إنني أرى الحرب لا تزداد إلا تماديا فقالت له أم ولد سعد، وكانت تقريباً هي القائمة على حراسته، قالت له: أتجعل لي إن أطلقتك أن ترجع حتى أعيدك في الوثاق؟ أي: تعدني أني إذا أطلقتك الآن وأخرجتك كي تشارك في الجهاد تذهب فإذا فرغت من الجهاد تعود إلى القيد ثانية وإلى الحبس، فقال: نعم.
فانظر كيف حرصه على الجهاد، عاهدها على أنه إذا فرغ من الجهاد يعود للمحبس كما كان، فأطلقته، وركب فرساً لـ سعد بلقاء من خيول سعد الخاصة، وحمل على المشركين، فجعل سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه يراه وهو يقاتل فيقول: لولا أن أبا محجن في الوثاق لظننت أنه أبو محجن وأنها فرسي، وانكشف المشركون -أي: انهزموا- وجاء أبو محجن بعد أن فرغ من الجهاد فأعادته في الوثاق وأتت سعداً فأخبرته بما كان من أبي محجن، فأرسل سعد إلى أبي محجن فأطلقه وقال: (والله! لا حبستك فيها أبداً) يعني: مكافأة له على جهاده وحسن بلائه، فقال أبو محجن: (وأنا والله! لا أشربها بعد اليوم أبداً).
وعن قتادة أن عامر بن قيس لما أتاه الموت جعل يبكي، فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: ما أبكي جزعاً من الموت ولا حرصاً على الدنيا، ولكن أبكي على ظمأ الهواجر وعلى قيام ليالي الشتاء، أي: أنه ندم على أنه سيفارق الدنيا ولم يتمكن لا من صيام الأيام الحارة ولا من قيام الليالي الباردة في الشتاء، فهذا هو الذي يندم عليه كبير الهمة.
وذكروا لـ شعبة حديثاً لم يسمعه فجعل يقول: واحزناه! واحزناه! ويتحسر على أنه لم يسمع هذا الحديث.
وكان شعبة رحمه الله يقول: إني لأذكر الحديث فيفوتني فأمرض.
يعني: أنه كان يحاول أن يتذكر الحديث فلا يقوى على استرجاعه، فيصيبه المرض حزناً على أن هذا الحديث قد فاته.
يقول الشاعر: كم فرصة ذهبت فعادت غصة تشجي بطول تلهف وتندم وقال القاسم بن سلام: دخلت البصرة لأسمع من حماد بن زيد فإذا هو ميت -يعني: وجده قد مات- فشكوت ذلك إلى ابن مهدي فقال لي: مهما سبقت فلا تسبقن بتقوى الله.
قال هذا يواسيه ويعزيه: مهما سبقت وفاتك من العلم أو من الحديث فمازال باب التقوى والعبادة مفتوحاً فلا يسبقك أحد في طاعة الله سبحانه وتعالى.
ولما حج أبو بكر السمعاني والسلفي ظفرا بـ أبي مكتوم عيسى بن أبي ذر فتهاونا في أن يسمعا عليه الأحاديث، فسارع في النفر الأول، يعني: تعجل في يومين وذلك بأن نفر من الحج في ثالث أيام التشريق ورجع إلى موطنه سراة بني شيبان وفاتهما، فحزن تاج الإسلام أبو بكر فأخذ السلفي يسليه على شدة ندمه لما فاتهما ويقول: ما كان معه سوى صحيح البخاري وأنت في إسناده مثله.
واقتنى الشيخ جمال الدين بن القفطي نسخة جميلة من كتاب الأنساب للسمعاني حررت بيد المؤلف، إلا أن فيها نقصاً، وبعد العناء الطويل حصل على الأوراق الناقصة من النسخة إلا على أوراق بلغه أن قلانسياً قد استعملها في شغله، يعني: أن رجلاً كان يصنع القلانس جعلها قوالب للقلانس فضاعت، فتأسف غاية الأسف على هذا الضياع، وكيف أن هذه الأوراق ضاعت بهذه الطريقة، وندم ندماً شديداً حتى كاد يمرض وامتنع أياماً عن الخروج إلى الأمير في قصره، وصار عدة من الأفاضل والأعيان يزورونه تعزية له وكأنه قد مات أحد أقاربه المحبوبين من شدة تألمه لفوات هذه الأوراق.
فمن صفات عالي الهمة أنه لا يندم على أي شيء ولا يبالي بما فاته من الدنيا، وإنما يحزن مثل هذا الحزن إذا فاته شيء من مقاصد الآخرة.