ومن علو همة السلف معاناتهم الجوع والمرض والشدائد والمخاطرة بالنفس في طلب العلم.
قص الإمام أبو حاتم رحمه الله تعالى شيئاً مما لقيه في أثناء رحلته في طلب العلم فقال رحمه الله: لما خرجنا من المدينة من عند داود الجعفري صرنا إلى الجار، وركبنا البحر، وكنا ثلاثة أنفس: أبو زهير المروروذي شيخ، وآخر نيسابوري، فركبنا البحر، وكانت الريح في وجوهنا، فبقينا في البحر ثلاثة أشهر، وضاقت صدورنا، وفني ما كان معنا من الزاد، وبقيت بقية، فخرجنا إلى البر، فجعلنا نمشي أياماً على البر حتى فني ما كان معنا من الزاد والماء، فمشينا يوماً وليلة لم يأكل أحد منا شيئاً، ولا شربنا، واليوم الثاني كذلك، واليوم الثالث كذلك، كل يوم نمشي إلى الليل، فإذا جاء المساء صلينا وألقينا بأنفسنا حيث كنا، وقد ضعفت أبداننا من الجوع والعطش والعياء، فلما أصبحنا اليوم الثالث جعلنا نمشي على قدر طاقتنا، فسقط الشيخ مغشياً عليه، فجئنا نحركه وهو لا يعقل، فتركناه ومشينا أنا وصاحبي النيسابوري قدر فرسخ أو فرسخين فضعفت وسقطت مغشياً علي، ومضى صاحبي وتركني، فلم يزل يمشي حتى أبصر من بعيد قوماً قد قربوا سفينتهم من البر، ونزلوا على بئر موسى عليه السلام، فلما عاينهم لوح بثوبه إليهم، فجاءوه ومعهم الماء في إداوة، فسقوه وأخذوا بيده، فقال لهم: رفيقين لي قد ألقيا بنفسيهما مغشياً عليهما، فما شعرت إلا برجل يصب الماء على وجهي، ففتحت عيني فقلت: اسقني.
فصب من الماء في ركوة أو مشربة شيئاً يسيراً.
وأخذ بيدي، فقلت: ورائي شيخ ملقى.
قال: قد ذهب إلى ذاك جماعة، فأخذ بيدي وأنا أمشي أجر رجلي ويسقيني شيئاً بعد شيء.
وكان من عادة العرب أن الإنسان عندما يكون في حالة عطش شديد، أو كان في مجاعة ومكث مدة كبيرة جداً حتى كاد يموت من العطش أنهم يأتون بالماء ويضيفون إليه التبن، حتى لا يتمكن من شرب الماء بشكل متواصل؛ لأنه يحتاج إلى إزالة التبن من الماء أثناء شربه، وهذا الأمر كان يفعل منذ القدم.
يقول: فأخذ بيدي وأنا أمشي أجر رجلي ويسقيني شيئاً بعد شيء، حتى إذا بلغت إلى عند سفينتهم، وأتوا برفيقي الثالث الشيخ، وأحسنوا إلينا، فبقينا أياماً حتى رجعت إلينا أنفسنا، ثم كتبوا لنا كتاباً إلى مدينة يقال لها: (راية) إلى واليهم، وزودونا من الكعك والسويق والماء، فلم نزل نمشي حتى نفد ما كان معنا من الماء والسويق والكعك، فجعلنا نمشي جياعاً عطاشاً على شط البحر، حتى وقعنا على سلحفاة قد رمى به البحر مثل الترس، فعمدنا إلى حجر كبير فضربنا على ظهر السلحفاة فانفلق ظهره، وإذا فيها مثل صفرة البيض، فأخذنا بعض الأصداف الملقاة على شط البحر فجعلنا نغترف من ذلك الأصفر فنتحساه حتى سكن عنا الجوع والعطش.
ثم مررنا وتحملنا حتى دخلنا مدينة الراية، وأوصلنا الكتاب إلى عاملهم، فأنزلنا في داره وأحسن إلينا، وكان يقدم إلينا كل يوم القرع، وكان يتكلم الفارسية، فكان كل يوم يقول للخادم: هات لهم اليقطين المبارك -أي: كان عنده شيء من البخل، فما كان يعطيهم إلا اليقطين الذي هو القرع-، قال: فقدم إلينا ذلك اليقطين مع الخبز أياماً، فقال واحد منا بالفارسية: ألا تدعو باللحم المشئوم؟! فسمع صاحب الدار، فسأله فقال: أنا أحسن الفارسية؛ فإن جدتي كانت هروية.
فأتانا بعد ذلك باللحم، ثم خرجنا من هناك وزودنا إلى أن بلغنا مصر.
وكل هذه الرحلة كانت في سبيل طلب العلم.
وقال بكر بن حمدان المروزي: سمعت ابن خراش يقول: شربت بولي في طلب هذا الشأن -يعني طلب الحديث- خمس مرات.
يعني: وصل به الحال من المجاعة إلى أنه كان ينقذ حياته بأن يشرب بول نفسه خمس مرات في طلب الحديث، وذلك أنه كان يمشي في الفلوات والقفار لتحصيل الحديث وتلقيه عن أهله، فيناله العطش الشديد في طريقه.
يقول الشاعر: تلوم علي أن رحت للعلم طالبا أحصّل من عند الرواة فنونه فيا لائمي دعني أغالي بقيمتي فقيمة كل الناس ما يحسنونه وقال الوخشي أبو علي الحسن: كنت بعسقلان أسمع من ابن مصحح وغيره، فضاقت علي النفقة، وبقيت أياماً بلا أكل، فأخذت لأكتب فعجزت، فذهبت إلى دكان خباز وقعدت بقربه لأشم رائحة الخبز وأتقوى بها، ثم فتح الله تعالى علي.
فانظر إلى شدة الجوع الذي كانوا يلاقونه في سبيل طلب العلم، يرحلون ويبيعون كل ما لديهم في سبيل طلب العلم؛ لأنهم أحصروا في طلب الحديث، ولم يتفرغوا لطلب الرزق.
ويقول الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى: لقد كنت في حلاوة طلبي العلم ألقى من الشدائد ما هو عندي أحلى من العسل؛ لأجل ما أطلب وأرجوا كنت في زمان الصبا آخذ معي أرغفة يابسة، فأخرج في طلب الحديث، وأقعد على نهر عيسى فلا أقدر على أكلها إلا عند الماء، فكلما أكلت لقمة شربت عليها، وعين همتي لا ترى إلا لذة تحصيل العلم، فأثمر ذلك عندي أني عرفت بكثرة سماعي لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحواله وآدابه وأحوال أصحابه والتابعين.
يقول البارودي: ومن تكن العلياء همة نفسه فكل الذي يلقاه فيها محبب