من مظاهر علو همة السلف في طلب العلم صبرهم على الفقر ومعاناة الفقر في سبيل طلب العلم، وقد زخرت كتب الأدب والتراجم والتاريخ والأخلاق بأقوال العلماء في فقرهم وغربتهم وصبرهم على شدائدهم الخانقة، واستهانتهم بها، وعدم اكتراثهم لها، تمسكاً منهم بمثوبة الصبر المحتسب فيه الأجر، والذي كانوا فيه من الفائزين.
فهذا قائل منهم يقول سائلاً عن مسكن الفقر ومنزله: قلت للفقر أين أنت مقيم قال لي في عمائم الفقهاء إن بيني وبينهم لإخاء وعزيز علي ترك الإخاء وآخر يجعل الفقه هو الفقر بعينه، إنما استدارت راء الفقر فصارت هاءً، وصار الناس ينطقونها (الفقه)، وأصلها (الفقر)، فيقول مشيراً إلى التلازم بين الفقه والفقر: إن الفقيه هو الفقير وإنما راء الفقير تجمعت أطرافها وهذا الإمام الشافعي رحمه الله يستهين بسطوة الفاقة، ويكسر جبروتها بصبره الذي غلبها، فيقول فيما نسب إليه رحمه الله تعالى يخاطب جبال سرنديب -وسرنديب جزيرة كبيرة في أقصى الهند في المشرق- ويخاطب تكرور -وهي مدينة في أقصى المغرب-: أمطري لؤلؤاً جبال سرنديب وفيضي آبار تكرور تبراً أنا إن عشت لست أعدم قوتاً ولئن مت لست أعدم قبراً همتي همة الملوك ونفسي نفس حر ترى المذلة كفرا والتبر هو الذهب.
وقال عمر بن حفص الأشقر: فقدنا البخاري أياماً من كتابة الحديث في البصرة، فطلبناه فوجدناه في بيت وهو عريان، وقد نفد ما عنده، ولم يبق معه شيء، فجمعنا له دراهم حتى اشترينا له ثوباً وكسوناه، ثم اندفع معنا في كتابة الحديث رحمه الله تعالى.
وقال مالك رحمه الله: لا ينال هذا الأمر حتى يذاق فيه طعم الفقر.
وقال ابن القاسم: أفضى بـ مالك طلب الحديث إلى أن نقض سقف بيته فباع خشبه.
باع الإمام مالك كل شيء في سبيل طلب الحديث الشريف.
ويحيى بن معين رحمه الله تعالى خلف له أبوه ألف ألف درهم -أي: مليون درهم-، فأنفقها كلها في تحصيل الحديث، حتى لم يبق له نعل يلبسه.
وروي عن أبي حاتم أنه قال: ضاقت بنا الحال أيام طلب العلم، فعجزت عن شراء البزر -والبزر نوع من الحب-، فكنت أخرج الليل إلى الدرب الذي أنزله فأرتفق بسراج الحارس، وكان ربما ينام الحارس فكنت أنوب عنه.
لأنه ليس عنده ما يشتري به زيتاً يستضيء به، فكان يذهب في الليل ليكتب على مشاعل الحارس.