من ملامح علو همة السلف في طلب العلم معاناتهم السهر في طلب العلم.
قيل لبعض السلف: بم أدركت العلم؟ قال: بالمصباح والجلوس إلى الصباح.
وقيل ذلك لآخر فقال: بالسفر، والسهر، والبكور في السحر.
قال الخطيب البغدادي: وأفضل المذاكرة مذاكرة الليل.
وكان جماعة من السلف يفعلون ذلك، وكان جماعة منهم يبدءون من العشاء، فربما لم يقوموا حتى يسمعوا أذان الصبح.
وبادر الليل بما تشتهي فإنما الليل نهار الأريب وكان الشيخ أبو علي يكشف عن ظهره في الليلة الباردة يطرد به النوم.
وكان محمد بن الحسن الشيباني رحمه الله تعالى لا ينام الليل، كان عنده الماء يزيل نومه به، وكان يقول: إن النوم من الحرارة، فلابد من دفعه بالماء البارد.
وذكر ابن اللباد أن محمد بن عبدوس صلى الصبح بوضوء العتمة ثلاثين سنة، خمس عشرة سنة من دراسة، وخمس عشرة سنة من عبادة.
يقول الشاعر: يهوى الدياجي إذا المغرور أغفلها كأن شهب الدياجي أعين نجل أي: أعين واسعة.
وحكى الربيع عن فاطمة بنت الشافعي قالت: أسرجت لأبي في ليلة سبعين مرة.
وأبوها هو الإمام الشافعي رحمه الله تعالى، ففي ليلة من الليالي أيقظ ابنته ليكتب شيئاً ثم نام ثم استيقظ ثانية، وهذا نوع من الأرق المحمود، فلا يستطيع النوم لشدة شغفه بالعلم.
قال الحافظ ابن كثير: كان البخاري يستيقظ في الليلة الواحدة من نومه فيوقد السراج فيكتب الفائدة تمر بخاطره ثم يطفئ سراجه، ثم يقوم مرة أخرى، حتى كان يتعدد منه ذلك قريباً من عشرين مرة.
وأسد بن الفرات هو قاضي القيروان، وتلميذ الإمام مالك، ومدون مذهبه، وهو أحد القادة الفاتحين، فتح صقلية واستشهد بها سنة (213) من الهجرة رحمه الله، كان قد خرج من القيروان إلى الشرق سنة (172) من الهجرة، فسمع الموطأ على مالك بالمدينة، ثم رحل إلى العراق فسمع من أصحاب أبي حنيفة وتفقه عليهم، وكان أكثر اختلافه إلى محمد بن الحسن الشيباني، ولما حضر عنده قال له: إني غريب قليل النفقة، فما حيلتي؟! فقال له محمد بن الحسن: اسمع من العراقيين بالنهار، وقد جعلت لك الليل وحدك، تبيت عندي وأسمعك.
قال أسد: فكنت أبيت عنده وينزل إلي، ويجعل بين يديه قدحاً فيه الماء، ثم يأخذ في القراءة، فإذا طال الليل ونعست ملأ يده ونفح وجهي بالماء فأنتبه، فكان ذلك دأبه ودأبي، حتى أتيت على ما أريد من السماع عليه.
وكان محمد بن الحسن يتعهده بالنفقة كلما علم أن نفقته نفذت، وأعطاه مرة ثمانين ديناراً حين رآه يشرب من ماء السبيل، وأمده بالنفقة حين أراد الانصراف من العراق.
وقال عبد الرحمن بن قاسم العتقي المصري أحد أصحاب مالك والليث وغيرهما: كنت آتي مالكاً غلساً -يعني: في آخر الليل- فأسأله عن مسألتين أو ثلاث أو أربع، وكنت أجد منه في ذلك الوقت انشراح صدر، فكنت آتيه كل سحر، فتوسدت مرة عتبته، فغلبتني عيني فنمت، وخرج مالك إلى المسجد ولم أشعر به، فركضتني جارية سوداء له برجلها، وقالت لي: إن مولاك قد خرج، ليس يغفل كما تغفل أنت، اليوم له تسع وأربعون سنة ما صلى الصبح إلا بوضوء العتمة.
فظنت السوداء أنه مولاه من كثرة اختلافه إليه.
قال ابن القاسم: أنخت بباب مالك سبع عشرة سنة، ما بعت فيها ولا اشتريت شيئاً.
قال: فبينما أنا عنده إذ أقبل حاج مصر، فإذا شاب متلثم دخل علينا فسلم على مالك فقال: أفيكم ابن القاسم؟! فأشير إلي، فأقبل يقبل عيني، ووجدت منه ريحاً طيبة، فإذا هي رائحة الولد وإذا هو ابني.
وكان ابن القاسم ترك أمه حاملاً به، وكانت ابنة عمه، وقد أخبرها عند سفره بطول إقامته وخيرها، فاختارت البقاء.
قال أبو يعلى الموصلي: اصبر على مضض الإدلاج بالسحر وبالرواح على الحاجات والبكر لا تعجزن ولا يضجرك مطلبها فالنجح يتلف العجز والضجر أي أن النجاح يتبخر ويضيع بين العجز والضجر.
إني رأيت وفي الأيام تجربة للصبر عاقبة محمودة الأثر فقل من جد في أمر يطالبه واستصحب الصبر إلا فاز بالظفر وحكى شيخ الإسلام النووي رحمه الله تعالى عن شيخه الإمام الجليل أبي إسحاق إبراهيم بن عيسى المرادي قال: سمعت الشيخ عبد العظيم رحمه الله يقول: كتبت بيدي تسعين مجلداً، وكتبت سبعمائة جزء.
كل ذلك من علوم الحديث.
قال النووي: قال شيخنا: ولم أر ولم أسمع أحداً أكثر اجتهاداً منه في الاشتغال، كان دائم الاشتغال في الليل والنهار.
قال: وجاورته في المدرسة -يعني: في القاهرة- بيتي فوق بيته اثنتي عشرة سنة، فلم أستيقظ في ليلة من الليالي في ساعة من ساعات الليل إلا وجدت ضوء السراج في بيته وهو مشتغل بالعلم.
حتى في حال الأكل تكون الكتب عنده يشتغل فيها، فالنور الذي يعلو أهل العلم إنما هو من أثر الجد والسهر في طلب العلم، يقول بعض العلماء في وصف أبي محمد المقدسي: كأن النور يخرج من وجهه، وضعف بصره من كثرة الكتابة والبكاء.
وقال الزمخشري واصفاً تلذذ العلماء بإيقاظ ليلهمن وطول سهرهم: سهري لتنقيح العلوم ألذ لي من وصل غانية وطيب عناق وتمايلي طرباً لحل عويصة أشهى وأحلى من مدامة ساق وصرير أقلامي على أوراقها أحلى من الدوكاء والعشاق وألذ من نقر الفتاة لدفها نقري لألقي الرمل عن أوراقي أأبيت سهران الدجى وتبيته نوماً وتبغي بعد ذاك لحاقي والدوكاء: الحجر الذي يسحق به الطيب.
قال النووي رحمه الله تعالى وهو يحكي عن أوائل طلبه للعلم: وبقيت سنتين لم أضع جنبي على الأرض.
بقي سنتين لم يضع جنبه على الإطلاق على الأرض، وإنما كان ينام وهو جالس، ثم لا يلبث أن يستيقظ للاستمرار في طلب العلم.
وحكى البدر بن جماعة أنه سأله رحمه الله تعالى عن نومه فقال الإمام النووي رحمه الله تعالى: إذا غلبني النوم استندت إلى الكتب لحظة وأنتبه.
وقال البدر: وكنت إذا أتيته أزوره يضع بعض الكتب على بعض ليوسع لي مكاناً أجلس فيه.
فما كان الزائر يجد مكاناً يجلس فيه من كثرة الكتب التي يطالعها.
وهذا الإمام الشيخ مؤرخ الإسلام وحافظ الشام عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن كثير رحمه الله تعالى أخذ كتاب الإمام أحمد مرتباً عن المحب الصامت، وأضاف إليه أحاديث الكتب الستة، ومعجم الطبراني الكبير، ومسند البزار، ومسند أبي يعلى الموصلي وأجهد نفسه كثيراً، وتعب فيه تعباً عظيماً، فجاء مصنفاً ليس له نظير في العالم، وأكمله إلا من بعض مسند أبي هريرة فإنه مات قبل أن يكمله؛ لأنه عوجل بكف بصره، أي أن الإمام ابن كثير قل بصره من كثرة سهره في طلب العلم.
يقول الذهبي عن ابن كثير: إنه قال له: ما زلت أكتب فيه في الليل والسراج ينونص -يعني: يخفت الضوء ثم يعود مرة ثانية- حتى ذهب بصري معه، ولعل الله يقيض من يكمله.
وممن اشتهر بالسهر في طلب العلم الإمام الجليل تقي الدين بن دقيق العيد رحمه الله تعالى، وقد رحل إلى الفسطاط والقاهرة والإسكندرية ودمشق والحجاز، وأخذ العلم عن كبار أساتذة عصره، وتعمق في مذهبي مالك والشافعي، كما تعمق في علوم الحديث والتفسير وعلم الكلام والنحو والأدب، وأتقن وهو شاب المذهبين إتقاناً عظيماً، وبلغ إلى درجة الإفتاء بهما.
يقول الإسنوي: حقق المذهبين معاً، يعني مذهب مالك والشافعي، ولذلك مدحه الشيخ ركن الدين بن القوبع المالكي بقصيدة من جملتها: صبا للعلم صباً في صباه يعني: مال وأحب وعشق العلم في فترة الصبا.
يقول: صبا للعلم صباً في صباه فأعل بهمة الصب الصبي وأتقن والشباب له لباس أدلة مالك والشافعي كان رحمه الله تعالى منقطعاً للعلم والعبادة، فكان لا ينام من الليل إلا قليلاً، وكانت أوقاته معمورة بالدرس والمطالعة والتحصيل أو الإملاء والتأليف ورواية الحديث، وإذا أراح نفسه من بعض ذلك العناء فلا يرى إلا قائماً يصلي في المحراب، أو جالساً يتلو كلام الله، أو ماشياً يتفكر في خلق الله متدبراً صنعه، مستدلاً بذلك على قدرة الله ووحدانيته، فهو منصرف بجسمه وفكره سواد ليله وبياض نهاره إلى البحث والتحقيق والاستنباط والتدقيق، أو الصلاة والقيام وتقديس الله الملك العلام.
وأصدق مرآة لحياته قوله: الجسم يذيبه حقوق الخدمة والقلب عذابه علو الهمة والعمر بذاك ينقضي في تعب والراحة ماتت فعليها الرحمة يقول السبكي في حاله: أما دأبه في الليل علماً وعبادة فأمر عجاب، فربما استوعب الليل فطالع فيه المجلد أو المجلدين، وربما تلا آية واحدة فكررها إلى مطلع الفجر.
وقال الأدفوي: حكى لي الشيخ زين الدين عمر الدمشقي المعروف بـ ابن الكتابي رحمه الله تعالى قال: دخلت عليه بكرة يوم فناولني مجلداً وقال: هذا طالعته في هذه الليلة التي مضت.
وقال الأدفوي أيضاً: له قدرة على المطالعة، رأيت خزانة المدرسة النجيبية بقوص فيها كتب من جملتها عيون الأدلة لـ ابن القصار في نحو ثلاثين مجلداً، وعليها علامات له.
وكذلك رأيت كتب المدرسة السابقية، رأيت على السنن الكبرى للبيهقي له فيها في كل مجلد علامة، وفي تاريخ الخطيب كذلك، وفي معجم الطبراني الكبير والأوسط.
وقال: أخبرني شيخ