كنا قد شرعنا في مدارسة هذا البحث المتعلق بعلو الهمة، وذكرنا ماهية الهمة، وذكرنا أن الهمة مولودة مع الآدمي، وقلنا: إنه لابد للسالك إلى الله سبحانه وتعالى من همة تسيره وترقيه، وعلم يبصره ويهديه، وذكرنا أقسام الناس من حيث القوتان: العلمية والعملية، فهناك قوة علمية وقوة عملية، أو علم وإرادة أو علم وهمة، فبعض الناس يجتمع له الأمران: قوة علمية وقوة عملية، وبعض الناس ينعدم فيه الأمران؛ فلا علم ولا إرادة، وبعضهم يوجد عنده الإرادة دون العلم، وبعضهم يوجد عنده العلم دون الإرادة.
وذكرنا أن الهمة وظيفة قلبية محلها القلب، ومن ثم لا سلطان لأحد على الهمة حتى ولو كان له سلطان على الجسد؛ لأن الهمة عمل القلب والقلب لا سلطان عليه إلا لله سبحانه وتعالى، وقلنا: إن قوة المؤمن كامنة في قلبه وإن القلب يحيا بالعلم والهمة، وناقشنا لماذا يستبدل بعض الناس الذي هو أدنى بالذي هو خير، وتكلمنا عن تفاوت الهمم حتى بين الحيوانات، وكيف يتفاضل الناس بتفاوت هممهم، وذكرنا أن عالي الهمة بقدر ما يتعنى ينال ما يتمنى.
ومن خصائص عالي الهمة أنه لا ينقض عزمه، قال عز وجل: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران:159]، فهو لا يعرف التردد، بل متى ما حدد غايته يمضي إليها ولا يلوي على شيء، ولا يلتفت إلى لوم اللائمين ولا عذل العاذلين، وهذا هو الأدب الذي أدب الله سبحانه وتعالى به نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: ((فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ))، وامتدح الله سبحانه وتعالى الصالحين بقوله: {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ} [الرعد:20]، وقال تعالى: {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب:23].
ولما أشار بعض الصحابة على رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل غزوة أحد بالخروج إلى المشركين ومقاتلتهم خارج المدينة، نزل صلى الله عليه وسلم على رأيهم، مع أنه كان يرى خلاف ذلك، لكنه نزل على رأيهم وأخذ بمشورتهم، وبعد أن صلى النبي صلى الله عليه وسلم بالمسلمين دخل إلى منزله فتدجج بسلاحه وظاهر بين درعيه ثم خرج على قومه بكامل عدته الحربية، وأذن فيهم بالخروج إلى العدو، وكان ذوو الرأي من الأنصار أو هؤلاء الذين أشاروا قد ندموا حين شعروا أنهم قد استكرهوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على اتباع خطة معينة لمقاتلة العدو كان هو يفضل غيرها، فندموا على ما أشاروا به وأنهم خالفوا مشورته، وقالوا: ما كان لنا أن نخالفك ولا نستكرهك على الخروج فاصنع ما شئت، وامكث داخل المدينة كما أمرتنا، فلم يرض أن ينقض همته؛ لأنه عزم ومضى وحدد فلا يتردد، وقال لهم مصمماً على الخروج: (ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين وبين عدوه)، يعني: لا ينبغي لنبي إذا لبس كامل سلاحه الذي يخرج فيه للقتال أن يضعه، بل مادام قد عزم فلا يتردد، ولا ينقض ما هم به وما عزم عليه.
وبعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم أرسلت الأنصار عمر إلى أبي بكر ليحبس الجيش أو ليولي عليهم رجلاً أقدم سناً من أسامة، حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم قد هيأ أسامة للخروج لمحاربة الروم، وكان أسامة حديث السن جداً في ذلك الوقت، فالأنصار بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم أرسلت عمر إلى أبي بكر أنه إما أن يحبس الجيش ولا يرسله وإما أن يغير الأمير ويعين شخصاً أكبر سناً من أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما.
فقال أبو بكر: (والله! لو علمت أن السباع تجر برجلي إن لم أرده ما رددته، ولا حللت لواءً عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمر: إن الأنصار أمروني أن أبلغك وهم يطلبون إليَّ أن تولي أمرهم رجلاً أقدم سناً من أسامة، فوثب أبو بكر وكان جالساً، فأخذ بلحية عمر فقال: ثكلتك أمك وعدمتك يا ابن الخطاب! استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم وتأمرني أن أنزعه؟!) يعني: هل أنقض أنا أمراً عزم عليه الرسول عليه الصلاة والسلام؟ فخرج عمر إلى الناس فقالوا له: (ما صنعت؟ فقال: امضوا ثكلتكم أمهاتكم، حسبي ما لقيت في سبيلكم من خليفة رسول الله).
وحين جاءه عمر في حروب الردة يقول له: (تألف الناس وارفق بهم.
فقال أبو بكر: رجوت نصرتك وجئتني بخذلانك! أجبار في الجاهلية وخوار في الإسلام؟! إنه قد انقطع الوحي وتم الدين، أوينقص الدين وأنا حي؟! قال عمر: فما هو إلا أن رأيت الله شرح صدر أبي بكر للقتال حتى عرفت أنه الحق).
والشاهد من الواقعتين: أن أبا بكر رضي الله عنه الذي هو أفضل البشر بعد الأنبياء، تعلم هذا الأدب من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا مضى وعزم لا يتردد ولا يشتت همته ولا ينقض عزمه.
قال جعفر الخلدي البغدادي: ما عقدت لله على نفسي عقداً فنكثته.
فإذاً: الشخص الذي تعلو همته وتكبر همته إذا حدد غايته ومنهاجه في الحياة فإنه لا يتردد فيه ولا يتلعثم ولا ينقض العزم الذي عزم عليه، فإذا نوى التوبة يستقيم على التوبة، وإذا نوى الإقلاع عن فعل معين وعاهد الله على ذلك يوفي بعهده ولا ينقض هذا الميثاق.
وقال صالح بن أحمد: عزم أبي -أي: الإمام أحمد - على الخروج إلى مكة ورافق يحيى بن معين، فقال أبي: نحج ونمضي إلى صنعاء إلى الإمام عبد الرزاق، يعني: بعدما يحجان يسافران إلى اليمن ليلقيا الإمام عبد الرزاق الصنعاني حتى يحدثهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فمضينا حتى دخلنا مكة، فإذا عبد الرزاق في الطواف، يعني: أنهما خرجا على أساس أنهما بعد الحج يذهبان إلى اليمن، ففوجئا بالإمام عبد الرزاق بن همام الصنعاني في الطواف، وكان يحيى يعرفه، فطفنا ثم جئنا إلى عبد الرزاق فسلم عليه يحيى وقال: هذا أخوك أحمد بن حنبل فقال: حياه الله، إنه ليبلغني عنه كل ما أسر به ثبته الله على ذلك، ثم قام لينصرف، فقال يحيى: ألا نأخذ عليه الموعد، يعني: نأخذ عليه موعداً في مكة كي يحدثنا بدلاً من أن نسافر إلى اليمن، فأبى أحمد وقال: لم أغير النية في رحلتي إليه.
فأبى الإمام أحمد أن ينقض عزمه أو أن يهدم نيته السابقة في السفر إلى اليمن في طلب العلم، ولذا قال له: لم أغير النية في رحلتي إليه، أو كما قال، ثم سافر إلى اليمن لأجله، وسمع منه الكتب وأكثر عنه.
وقال الحافظ أبو إسحاق الحبال: كنت يوماً عند أبي نصر السجزي فدُق الباب فقمت ففتحته، فدخلت امرأة وأخرجت كيساً فيه ألف دينار فوضعته بين يدي الشيخ، وقالت: أنفقها كما ترى.
يعني: أنفق هذا المال كما ترى، قال: ما المقصود؟ يعني: ماذا تقصدين بهذا؟ قالت: تتزوجني، ولا حاجة لي في الزواج، ولكن لأخدمك، يعني: أنها كانت امرأة صالحة تريد أن تتقرب إلى الله سبحانه وتعالى بأن تخدمه؛ لتعينه على ما هو فيه من نشر العلم، فأمرها بأخذ الكيس وأن تنصرف، فلما انصرفت قال الإمام: خرجت من سجستان بنية طلب العلم، ومتى تزوجت سقط عني هذا الاسم، وما أوثر على ثواب طلب العلم شيئاً، يعني: أنه لم يخرج بنية الزواج ولا غيره، فهو لا يريد أن ينقض نيته في الخروج إلى طلب العلم بأي أمر آخر.
ومن ذلك أيضاً ما يذكره بعض القصاص من أن رجلاً خطب امرأة ذات منصب وجمال فأبت الزواج به لفقره ولقلة حسبه، وقالت له: أنت فقير وما تصلح، ففكر بأي الأمرين ينالها أبالمال أم بالحسب، فاختار الحسب، يعني: أنها أخذت عليه أنه فقير وأنه ليس ذا حسب، فقال: أعالج عندي هاتين الصفتين فإما أن أنال الحسب أو أنال المال، فاختار أن ينال الحسب، فطلب العلم من أجل أن يكون له شهرة وصيت ويكون له حسب وشهرة بالعلم، ومعنى هذا: أنه كان يقصد من طلب العلم التأهل لزواج هذه المرأة، فطلب العلم حتى أصبح ذا مكانة، وحينئذٍ بعثت إليه المرأة تعرض نفسها، فقال: لا أوثر على العلم شيئاً، يعني: أنه لما طلب العلم أرشده إلى تصحيح النية وإلى الأعمال الصالحة فدخل في عداد قوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]، فتورع بترك امرأة كان طلب العلم لأجلها إعلاناً بصدق قصده وسلامة مأربه.
فمن كل هذا نخلص إلى أن الإنسان إذا اختار له طريقاً فلا يتردد ولا ينقض عزمه ولا همته ولا نيته.