قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: وأما سعادته فلا يورثك إياها إلا بذل الوسع وصدق الطلب وصحة النية، وقد أحسن القائل في ذلك: فقل لمرجي معالي الأمور بغير اجتهاد رجوت المحالا فما دام طلبك نفيساً فلابد من أن تبذل ثمناً نفيساً.
ومن أحب أن يخطب الحسناء فلابد من أن يدفع لها المهر الذي تستحقه، فالحور لا تخطب بالنوم ولا بالكسل ولا بالتراخي، وإنما تخطب بمهر هو الكد والجد والتعب والسهر.
يقول الشاعر: لولا المشقة ساد الناس كلهم الجود يفقر والإقدام قتال ومن طمحت همته إلى الأمور العالية فواجب عليه أن يشد على محبة الطرق الدينية وهي السعادة، وإن كان في ابتدائها لا تنفك عن ضرب من المشقة والكره والتأذي، وأنها متى أكرهت النفس عليها، وسيقت طائعة وكارهة إليها، وصبرت على لأوائها وشدتها أفضت منها إلى رياض مونقة ومقاعد صدق ومقام كريم، تجد كل لذة دونها لعب الصبي بالعصفور بالنسبة إلى لذات الملوك، فحينئذ حال صاحبها -يعني: الإنسان الذي يكد ويتعب في الدنيا في سبيل تحصيل مراتب ومنازل الآخرة كما قيل: وكنت أرى أن قد تناهى بي الهوى إلى غاية ما بعدها لي مذهب فلما تلاقينا وعاينت حسنها فأيقنت أني إنما كنت ألعب فحينما يرى الثمن العظيم والجزاء الوفير الذي يلقاه في الآخرة ينظر إلى عبادته وجهاده في الدنيا على أنه كان لعباً، على حد قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لو أن رجلاً يجر على وجهه من يوم ولد إلى يوم يموت هرماً في مرضاة الله عز وجل لحقره يوم القيامة).
فالمكارم منوطة بالمكاره، والسعادة لا يعبر عليها إلا على جسر من المشقة، فلا تقطع مسافتها إلا في سفينة الجد والاجتهاد.
قال مسلم في صحيحه: قال يحيى بن أبي كثير: لا ينال العلم براحة الجسم.
وقد قيل: من طلب الراحة ترك الراحة.
فيا واصل الحبيب ألا إليه بغير مشقة أبداً تروح ولولا جهل الأكثرين بحلاوة هذه اللذة وعظم قدرها لتجالدوا عليها بالسيوف.
أي: لولا أن أغلب الناس في جهل بلذة العلم ولذة السعادة التي ينالها الإنسان في الحياة الدنيا لتقاتلوا عليها.
فمالنا يشقى أحدنا ويكدح ويتعب في سبيل تحصيل هذه البواطل العالية ولا نفعل ذلك للجنة؟! السبب أنها حفت وأحيطت بحجاب من المكاره، فغفل عنها أغلب الناس، وحرموا منها بحجاب من الجهل، ليخص الله بها من يشاء من عباده، والله ذو الفضل العظيم.