يحكي الدكتور عبد الودود شلبي في كتابه (في محكمة التاريخ) فيقول: أذكر أنني ترددت كثيراً جداً على مركز من مراكز إعداد المبشرين في مدريد، وفي فناء المبنى الواسع وضعوا لوحة كبيرة كتبوا عليها: هذا مركز لتدريب المبشرين -أي: المنصرين-، أيها المبشر الشاب! نحن لا نعدك بوظيفة أو عمل أو سكن أو فراش وثير، إننا ننذرك بأنك لن تجد في عملك التبشيري إلا التعب والمرض في سبيل المسيح -عليه السلام-.
أي: في سبيل الباطل، ومع ذلك يقابلونهم بهذه الصراحة! وأذكر أن في أحدى البلاد العربية أو الخليجية عمل أحد الشباب خطة لتحفيظ القرآن للشباب في المساجد، وجعل لها جدولاً بأسماء المدرسين المقترحين.
فالمسئول عنهم الذي هو من المواطنين في هذه البلدة عرض عليه هذا الموضوع ففرح جداً بخطة تحفيظ القرآن وهذا النشاط الجيد، وقال لهذا الشاب: احضر الإخوة هؤلاء ليعملوا في التحفيظ بعد الظهر.
يعني: في وقت الفراغ بالنسبة إليه.
فمن الناس من تجهم حينما علم أنه ليس هناك مرتب، ومنهم من فرح؛ لأنه يريد أن يتعبد بتحفيظ الشباب والأطفال القرآن الكريم، فانقسموا فريقين، وحصل كلام وقيل وقال يعبر عن التذمر والتضجر من هذا الأمر.
فما كان من هذا الرجل المسئول هناك إلا أن جمعهم وتكلم فيهم، وقال: لقد اخترناكم لأنكم حملة كتاب الله.
وقال نحو ذلك من الكلام الطيب، وأردف: إنه كان يمكننا أن نحضر أضعافكم أربع مرات من بلاد أخرى بنفس الراتب الذي يأخذه الواحد منكم، لكننا آثرناكم لأنكم عرب وأهل علم.
ثم ضرب لهم هذا المثل، فقال لهم: لا تكونوا مثل آلة البيبسي؛ إن أعطيتها ريالات أخرجت لك البيبسي، وإن لم تبذل فإنها لا تعطيك شيئاً، فالإنسان إذا عمل في الدعوة لا ينبغي أن تكون الفلوس هي التي تحركه؛ فإن طالب الآخرة همة الآخرة هي التي تحركه، وثواب الله سبحانه وتعالى هو الأبقى والأعظم والأوفر.
فهؤلاء المنصرون في مركز إعداد المبشرين في مدريد -وهي مدينة من مدن الفردوس المفقود- يعلقون هذه اللوحة أمام وجوه الداخلين: أيها المبشر الشاب! نحن لا نعدك بوظيفة أو عمل أو سكن أو فراش وثير، إننا ننذرك بأنك لن تجد في عملك التبشيري إلا التعب والمرض، وكل ما نقدمه إليك هو العلم والخبز وفراش خشن في كوخ صغير، أجرك كله ستجده عند الله، إذا أدركك الموت وأنت في طريق المسيح كنت من السعداء.
هذه الكلمات حركت كثيراً من جند الشيطان المبشرين بالنيران، حركت حملة الشهادات في الطب والجراحة والصيدلة وغيرها من التخصصات للذهاب إلى الصحاري القاحلة التي لا توجد فيها إلا الخيام والمستنقعات المليئة بالنتن والميكروبات، والمكوث هناك السنين الطوال دون راتب ودون منصب، ولو أراد أحدهم العمل بمؤهله لربح مئات الآلاف من الدولارات، ولكنه ضحى بكل هذا من أجل الباطل الذي يعتقد صحته.
حكى بعض الشباب المسلمين في ألمانيا فقالوا: منذ السادسة صباحاً ينتشر دعاة فرقة (شهود يهوه) الذين هم فرقة من اليهود ضحكوا على النصارى، وعملوا لهم تغييراً في العقيدة النصرانية، وهذه الفرقة من أشد الفرق تعصباً للنصرانية المحرفة هذه، فالنصرانية محرفة، وهؤلاء حرفوها -أيضاً- تحريفاً جديداً.
فينتشر هؤلاء الدعاة من السادسة صباحاً في الشوارع، وينطلقون إلى البيوت، ويطرقون الأبواب للدعوة إلى عقيدتهم.
وحكى أحد الشباب المسلمين أن فتاة ألمانية منهم طرقت بابه في السادسة صباحاً، فلما علم أن غرضها دعوته إلى عقيدتها بين لها أنه مسلم، وأنه ليس في حاجة إلى أن يستمع منها، فظلت تجادله وتلح عليه أن يمنحها ولو دقائق من أجل المسيح، فلما رأى إصرارها أوصد الباب في وجهها، ولكنها أصرت على تبليغ عقيدتها ووقفت تخطب أمام الباب المغلق قرابة نصف ساعة تشرح له عقيدتها وتغريه باعتناق دينها! فما بالنا -معشر المسلمين- يجلس الواحد منا شبعان متكئاً على أريكته إذا طلب منه نصرة دين الحق، أو كلف بأيسر المهام، أو عوتب لاستغراقه في اللهو والترفيه انطلق كالصاروخ مردداً قوله صلى الله عليه وسلم: (يا حنظلة! ساعة وساعة) وكأنه لا يحفظ من القرآن ولا من السنة غير قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ساعة وساعة)؟!