يقول الأستاذ الراشد حفظه الله تعالى: يقف الداعية يؤذن في الناس، ولكن أكثر الناس نيام، ويرى جلد أصحاب الباطل وأهل الريبة وتفانيهم لإمرار خطتهم، فإذا التفت رأى الأمين المسلم سادراً غافلاً إلا الذين رحمهم ربهم، وقليل ما هم، ويعود ليفرغ حزنه في خطاب مع نفسه: تبلد في الناس حس الكفاح ومالوا لكسب وعيش رتيب يكاد يزعزع من همتي سدور الأمين وعزم المريب ويتهم نفسه أنه لم يكن بليغاً في ندائه، ويقول: لعلي كنت مقصراً في كلامي، ما حزت نواصي البلاغة، وكنت عيياً لا أفصح عن الأفكار، فيتهم نفسه أنه لم يكن بليغاً في ندائه، ولكن سرعان ما يحس أنه قد حاز البلاغة من أقطارها، فيعود يسلي نفسه ويجمل عزاءه: ومن حر شدوي يرى في الخريف طروباً بصحبتي العندليب ولكن خلقت بأرض بها نفوس العبيد برق تطيب يعني: أنا أتقن البلاغة جداً، وأنا آخذ بناصيتها، وإن شدوي وصوتي في النداء والدعوة صوت حر عذب يرى في الخريف، ومن شدة تمكني من عذوبة الصوت والبلاغة والفصاحة أجد حينما أشدو أنه يصحبني العندليب كي يستمع إلى صوتي.
فهذا معنى قوله: ومن حر شدوي يرى في الخريف طروباً بصحبتي العندليب وقوله: ولكن خلقت بأرض بها نفوس العبيد برق تطيب يعني أنه يعود فيلوم الناس، ولا يلوم نفسه، ولا شك في أن نفسية الأمم وتركيبها النفسي يؤثر في مواقفهم من الدعوة؛ لأن الأمر كما قال الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله تعالى: ليست المشكلة في الاستعمار، لكن المشكلة في القابلية للاستعمار.
أي: القابلية للذل والرضا والقناعة بالذل والهوان.
فبعض الشباب يكون عنده استعداد أصلاً، وحينئذٍ فلا ينبغي أن يلقي باللائمة على الأعداء الذين يتربصون بالدين ويحاربونه ويشنون حملات عليه؛ إذ لا شك في أن الجماهير والشعوب هي نفسها شريكة في محاولة إطفاء نور الله سبحانه وتعالى، كما قال عز وجل: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [الزخرف:54]، فلو لم يكن عندهم نفس القابلية للباطل بهذه الصورة لما استجابوا هذه الاستجابة المذهلة، وكأنهم لم يصيروا مسلمين ولم يبقوا بعد مسلمين من شدة الاستجابة للباطل الذي يصب في رءوسهم صباح مساء.
فلا شك في أن الناس مسئولون، ولا ينبغي أبداً أن يلقى باللائمة فقط على الكبراء، وإنما الناس لديهم الاستعداد والرضا بالتشنيع على الدين، حتى على المظاهر الدينية الصرفة التي لا تعلق لها بما يذكرون! فتبدلت الآن موازين البلاغة، وافتقد الجيل الأعمال الكبيرة التي يتمجد بها، فصار كما يقول الرافعي: تخترع له الألفاظ الكبيرة ليتلهى بها، ورغم الفساد فإن الداعية المسلم لم يتخل عن محاولة انتشال العباد، وإن كل وساوس اليأس من الإصلاح لن تلبث أن تتبدد أمام لحظة انتباه إيماني تريه مكانته المتوسطة لموكب الإيمان السائر، أخذاً عن السلف، وما دمت آخذاً عن السلف فلابد أن يسوق لك قدر الله خلفاً يستلم الأمانة منك، ذلك وعد الله، وإنه لموكب لن ينقطع أبداً.
فلابد من أن تكون واثقاً، فكما أخذت عمن سلف لابد من أن يقيض الله لك الخلف الذي يحمل الراية منك ويحملها بعدك، والدليل على ذلك أن هذا وعد بأن الموكب لن ينقطع أبداً، مهما تكالبت قوى الشر والكفر.
وقد مضى بهذا الوعد قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك)، وأمر الله هو الريح التي تقبض أرواح المؤمنين في آخر الزمان.
فهذا فيما يتعلق بالنماذج وبعض التنبيهات المتعلقة بعلو همة السلف الصالح رحمهم الله تعالى ومن تبعهم من الخلف في الدعوة إلى الله عز وجل.