يقول رحمه الله: كبير الهمة دوماً في عناء، وهو أبداً في نصب لا ينقضي، وتعب لا يفرغ؛ لأن من علت همته وكبرت طلب العلوم كلها، ولم تقتصر همته على بعضها، وطلب من كل علم نهايته، وهذا لا يحتمله البدن، ثم يرى أن المراد العمل، فيجتهد في قيام الليل، وصيام النهار، والجمع بين ذلك وبين العلم صعب، ثم يرى ترك الدنيا، ويحتاج إلى ما لابد منه، ويحب الإيثار، ولا يقدر على البخل، ويتقاضاه الكرمُ البذلَ، وتمنعه عزة النفس من الكسب من وجوه التبذل، فإن هو جرى على طبعه من الكرم احتاج وافتقر، وتأثر بدنه وعائلته، وإن أمسك فطبعه يأبى ذلك، ولكن تعب عالي الهمة راحة في المعنى، وراحة قصير الهمة تعب وشين إن كان ثمة فهم، ومصداقه في قول عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر: أرى نفسي تتوق إلى أمور يقصر دون مبلغهن مالي فنفسي لا تطاوعني ببخل ومالي لا يبلغني فعالي وقيل لـ ربيع بن خثيم لاجتهاده في العبادة: لو أرحت نفسك؟ فقال: راحتها أريد.
ربما كان مكروه النفوس إلى محبوبها سبباً ما مثله سبب، يعني: أن هذا الشيء المكروه قد يكون هو أعظم سبب يوصله إلى المحبوب.
وقال أحمد بن داود أبو سعيد الواسطي: دخلت على أحمد الحبس قبل الضرب، فقلت له في بعض كلامي: يا أبا عبد الله! عليك عيال، ولك صبيان، وأنت معذور؛ كأني أسهل عليه الإجابة، فقال لي أحمد بن حنبل: إن كان هذا عقلك يا أبا سعيد! فقد استرحت.
لكن هل هذه الراحة ممدوحة؟
صلى الله عليه وسلم لا، بل الهمل أو السفل من الناس.
وتأملوا هذه العبارة من الإمام أحمد؛ حيث يقول: إن كان هذا عقلك يا أبا سعيد! فقد استرحت.
يعني: كراحة هؤلاء الذين سفلت همتهم.
وقد قيل للإمام أحمد: متى يجد العبد طعم الراحة؟ فقال: عند أول قدم في الجنة.
ويقول الشاعر: أحزان قلبي لا تزول حتى أبشر بالقبول وأرى كتابي باليمين وتسر عيني بالرسول صلى الله عليه وسلم.
وقال الأمير شمس المعالي قابوس: اقتناء المناقب باحتمال المتاعب، وإحراز الذكر الجميل بالسعي في الخطب الجليل.
وعالي الهمة لا يعرف التوسط، يعني: إما يصل إلى غايته، وإما أن يموت، كما يقول الشاعر: ونحن أناس لا توسط عندنا لنا الصدر دون العالمين أو القبر تهون علينا في المعالي نفوسنا ومن خطب الحسناء لم يغلها المهر وأحدهم لما عوتب لشدة اجتهاده قال لمن عاتبه: إن الدنيا كانت ولم أكن فيها، وستكون ولا أكون فيها، ولا أحب أن أغبن أيامي.
يقول الشاعر: انفضوا النوم وهبوا للعلا فالعلا وقف على من لم ينم فالصلاة خير من النوم، والتجلد خير من التبلد، والمنية خير من الدنية، ومن عز بز.
فثب وثبة فيها المنايا أو المنى فكل محب للحياة ذليل فترى عالي الهمة منطلقاً بثقة وقوة وإقدام نحو غايته التي حددها على بصيرة وعلم، فيقتحم الأهوال، ويستهين بالصعاب، قال عمرو بن العاص رضي الله عنه: (عليكم بكل أمر مزلقة مهلكة)، يعني: لا تلقي نفسك بنفسك، ولكن عليك بجسام الأمور دون سفاسفها، وعليكم بالمخاطرة والجرأة والإقدام.
وقال أمير المؤمنين معاوية رضي الله تعالى عنه: (من طلب عظيماً خاطر بعظيمته)، يعني: بروحه.
وقال كعب بن زهير: وليس لمن لم يركب الهول بغية وليس لرحل حطه الله حامل وقال آخر: ذريني أنل ما لا ينال من العلى فصعب العلى في الصعب والسهل في السهل تريدين إدراك المعالي رخيصة ولابد دون الشهد من إبر النحل وقال الشريف الرضي: رمت المعالي فامتنعن ولم يزل أبداً يمانع عاشقاً معشوق وصبرت حتى نلتهن ولم أقل ضجراً دواء الفارك التطليق والفرك هو بغض أحد الزوجين للآخر، وفي الحديث: (لا يفرك مؤمن مؤمنة؛ إن كره منها خلقاً رضي منها آخر).
فهنا يقول: (رمت المعالي فامتنعن)، يعني: امتنعنت علي؛ لأنه عشق المعالي فامتنعت منه فظل يصارعها ويطلبها، كدأب العاشق والمعشوق.
وقوله: (ولم أقل ضجراً: دواء الفارك التطليق)، أي: لم أقل: إن الذي يفرك يضرب زوجته ويطلقها، ولم أطلق المعالي، لكنني صبرت حتى نلتها.
وعالي الهمة دائم الترحال في طلب مبتغاه حيث لاح له، كما قال الشاعر: همم تقاذفت الخطوب بها فهرعن من بلد إلى بلد ويقول آخر: إذا لم أجد في بلدة ما أريده فعندي لأخرى عزمة وركاب وقال: مالك بن الريب: وفي الأرض عن دار المذلة مذهب وكل بلاد أوطنت كبلادي