من خصائص كبير الهمة: أنه يعلم تماماً أنه بقدر ما يتعنى ينال ما يتمنى، يعني: أن ثمن الهدف العالي الذي يصبو إليه أن يكون هناك جهد جهيد يبذله؛ كي يصل إلى هذا الهدف، فلا يغرق في أحلام اليقظة والأماني الكاذبة، ولا يغتر بالأماني وهو لا يسعى في تحصيلها؛ فلابد لكل سلعة من ثمن يليق بها، فعالي الهمة يجود بالنفس والنفيس في سبيل تحصيل غايته، وتحقيق بغيته؛ لأنه يعلم أن المكارم منوطة بالمكاره، وأن المصالح والخيرات واللذات والكمالات كلها لا تنال إلا بحظ من المشقة، ولا يعبر عليها إلا على جسر من التعب، كما يقول الشاعر: بصرت بالراحة الكبرى فلم أرها تنال إلا على جسر من التعب ويقول آخر: فقل لمريد معالي الأمور بغير اجتهاد رجوت المحالا ويقول آخر: لولا المشقة ساد الناس كلهم الجود يفقر والإقدام قتال ويقول آخر: والذي يركب بحراً فيرى قحم الأهوال من بعد قحم أي: قد تروم هذه الغاية.
ويقول آخر: الذل في دعة النفوس ولا أرى عز المعيشة دون أن يشقى لها كان أبو موسى الأشعري رضي الله عنه يصوم حتى يعود كالخلال، أي: حتى يصبح نحيفاً كالأعواد التي يخلل بها الأسنان، فقيل له: لو أجممت نفسك؟ يعني: أرح نفسك، فقال: (هيهات؛ إنما يسبق من الخيل المضمرة)، فالفرس الذي يسبق لا يكون فرساً سميناً مليئاً بالشحوم، لكن كلما كان هزيلاً ورشيقاً كان أقوى على أن يسبق.
وقد قيل: من طلب الراحة ترك الراحة.
وقيل: فيا وصل الحبيب أما إليه بغير مشقة أبداً طريق يقول الإمام المحقق ابن القيم رحمه الله: تعالى: وقد أجمع عقلاء كل أمة على أن النعيم لا يدرك بالنعيم، وأن من آثر الراحة فاتته الراحة، وأن بحسب ركوب الأهوال واحتمال المشاق تكون الفرحة واللذة، فلا فرحة لمن لا هم له، ولا لذة لمن لا صبر له، ولا نعيم لمن لا شقاء له، ولا راحة لمن لا تعب له، بل إذا تعب العبد قليلاً استراح طويلاً، ومن تحمل مشقة الصبر ساعة قاده لحياة الأبد، وكل ما فيه أهل النعيم المقيم فهو صبر ساعة، والله المستعان، ولا قوة إلا بالله! يعني: أن كل ما فيه أهل الجنة هو عبارة عن أنهم صبروا في الدنيا ساعات، كما قال عز وجل حاكياً عن المجرمين: {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [المؤمنون:113].
وكلما كانت النفوس أشرف والهمة أعلى كان تعب البدن أوفر، وحظه من الراحة أقل، كما قال المتنبي: وإذا كانت النفوس كباراً تبعت في مرادها الأجسام وقال ابن الرومي: قلب يظل على أفكاره وئد تمضي الأمور ونفس لهوها التعب وقال مسلم في صحيحه: قال يحيى بن أبي كثير: لا ينال العلم براحة البدن.
ولا ريب عند كل عاقل أن كمال الراحة بحسب التعب، وكمال النعيم بحسب تحمل المشاق في طريقه، وإنما تخلص الراحة واللذة والنعيم في دار السلام، أما في هذه الدار فكلا، ولا يمكن أبداً؛ فمن أراد الراحة والنعيم واللذة فلن ينالها هاهنا في الدنيا؛ لأن الدنيا لابد أن تنغص بالمشاق والكدور والآلام والعناء، ولا يمكن أن تكون دار راحة ونعيم ولذة، وآية ذلك أن الأنبياء الذين هم أكرم الخلق على الله منهم من قتل، ومنهم من عانى المرض كأيوب عليه السلام، ومنهم من عانى الفقر، ومنهم من لقي الأذى، فجميع الأنبياء بلا شك عانوا وبذلوا وتعبوا في هذه الدنيا، وأوذوا فيها؛ لهوانها على الله سبحانه وتعالى، فليست هي دار إكرام عباد الله سبحانه وتعالى.
وهنا يذكر الشيخ محمد الخضر حسين رحمه الله تعالى كلاماً في غاية الجودة والإفادة في هذه النقطة بالذات، يقول رحمه الله: كبير الهمة دوماً في عناء، وهو أبداً في نصب لا ينقضي، وتعب لا يفرغ؛ لأن من علت همته وكبرت طلب العلوم كلها، ولن تقتصر همته على بعضها، وطلب من كل علم نهايته، وهذا لا يحتمله البدن.
ثم يرى أن المراد من العلم العمل، وهو يتكلم هنا عن عذاب عالي الهمة، وبنفس الوقت تجد أن هذا عذاب له لذة، وله هذا الطعم الحسن.
يقول: ثم يرى أن المراد العمل؛ فيجتهد في قيام الليل، وصيام النهار، والجمع بين ذلك وبين العلم، ثم يرى ترك الدنيا، ويحتاج إلى ما لابد منه، فهو محتاج أيضاً من المال والنفقة إلى ما لابد منه لقوام عيشه، ويحب الإيثار، أي: أن من أخلاق عالي الهمة الإيثار، فحتى لو كان معه مال فسيؤثر غيره، ولا يقدر على البخل، ويتقاضاه الكرم البذل، فصفة الكرم تدعوه إلى البذل، وتمنعه عزة النفس من الكسب من وجوه التبذل، فإن هو جرى على طبعه من الكرم احتاج وافتقر، وتأثر بدنه وعائلته، وإن أمسك فطبعه يأبى ذلك، ولكن تعب عالي الهمة راحة في المعنى، وراحة قصير الهمة تعب وشين إن كان ثمة فهم.