وعالي الهمة لا يزال يطير إلى المعالي بجناح الهمة، لا يلوي على شيء، ولا يستفزه لوم اللائمين، ولا تخبيط القاعدين، يعني: أن من خصائص عالي الهمة أنه مع تفرده في الطريق، والوحشة التي هو فيها لا يقوى أحد أبداً على أن ينقص من عزيمته، كما قال الشاعر: سبقت العالمين إلى المعالي بصائب فكرة وعلو همة ولاح بحكمتي نور الهدى في ليالي الضلالة مدلهمة يريد الجاهلون ليطفئوه ويأبى الله إلا أن يتمه وقال الشماخ بن ضرار يمدح عرابة الأوسي: رأيت عرابة الأوسي يسمو إلى الخيرات منقطع القرين إذا ما راية رفعت لنجد تلقاها عرابة باليمين وقال أبو القاسم السعدي: أعاذلتي على إتعاب نفسي ورعيي في الدجى روض السهاد إذا شام الفتى برق المعالي فأهون فائت طيب الرقاد ومن أراد الجنة سلعة الله الغالية لن يلتفت إلى فلوم لائم، ولا عذل عاذل، ومضى يكدح في السعي لها، قال تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً} [الإسراء:19].
وقال صلى الله عليه وسلم: (من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل؛ ألا إن سلعة الله غالية ألا إن سلعة الله الجنة).
والسلعة الغالية لابد أن تدفع لها ثمناً غالياً.
وقدر السلعة يعرف بقدر مشتريها، فمن الذي يشتري أرواح المؤمنين؟ {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ} [التوبة:111]، فقدر السلعة يعرف بقدر مشتريها، ويعرف أيضاً بقدر الثمن المبذول فيها، والمنادي عليها، فإذا كان المشتري عظيماً والثمن خطيراً والمنادي جليلاً كانت السلعة نفيسة، قال عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ} [التوبة:111].
يقول الشاعر: أنت يا مفتون ما تبرح في بحر المنام فدع السهو وبادر مثل فعل المستهام واسكب الدمع على ما أسلفته وابك لا تلو على عذل الملام أيها اللائم دعني لست أفضي للملام إنني أطلب ملكاً نيله صعب المرام في جنان الخلد والفر دوس في دار السلام وعروساً فاقت الشم س مع بدر التمام طرفها يشرق بالخ ط مضياً بالسهام ولها قضو على خ د كنون تحت لام أحسن الأتراب قداً في اعتدال وقوام مهرها من قام ليلاً وهو يبكي في الظلام وقد لا يتسنى له إدراك بغيته مع علو همته وشدة سعيه، لكنه يقول: عليَّ أن أسعى وليس عليّ إدراك النجاح فقد لا يتسنى للمرء إدراك بغيته وتحقيق غايته؛ لأمور خارجة عن إرادته، فلا يفعل ذلك من عزيمته، ولا يحط من همته، بل يعزي نفسه أنه أدى ما عليه، وأعذر إلى نفسه، ومبلغ نفس عذرها مثل منجح.
يقول الطائي: وركب كأطراف الأسنة عرسوا على مثلها والليل تسطو غياهبه لأمر عليهم أن تتم صدوره وليس عليهم أن تتم عواقبه وقال آخر: سأضرب في طول البلاد وعرضها أنال مرادي أو أموت غريبا فإن تلفت نفسي فلله درها وإن سلمت كان الرجوع قريبا ويقول آخر: عجبت لهم قالوا تماديت في المنى وفي المثل العليا وفي المرتقى الصعب فأقصر ولا تجهد يراعك إنما ستبذر حباً في ثرى ليس بالخصب فقلت لهم مهلاً فما اليأس شيمتي سأبذر حبي والثمار من الرب إذا أنا أبلغت الرسالة جاهداً ولم أجد السمع المجيب فما ذنبي يعني: مادمت أنا لم أقصر في إقامة الحجة على الخلق، وهم لم يستجيبوا، فما ذنبي أنا؟ فالداعية عالي الهمة يتمثل دائماً قول الصالحين قبله: معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون، فإذا لم تتحقق كل غاياتهم فحسبهم أنهم كانوا كما قال سيد قطب رحمه الله تعالى: كانوا أجراء عند الله، أينما وحيثما وكيفما أرادهم أن يعملوا عملوا، وقبضوا الأجر المعلوم.
فأنت أجير تعمل وتقبض الأجر من الله سبحانه وتعالى، وليس لهم ولا عليهم أن تتجه الدعوة إلى أي مصير؛ فذلك شأن صاحب الأمر لا شأن الأجير.
وحسبهم أن النبي قد يأتي يوم القيامة ومعه الرجل والرجلان والثلاثة، وقد يأتي نبي وليس معه أحد؛ لأنه لم يستجب له أحد، وقد قال الله تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ} [الشورى:48]، وقال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} [البقرة:272].
والله أعلم.