وقد أثنى الله سبحانه وتعالى على عباد الرحمن الذين كان من دعائهم إياه: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان:74] أي: نقتدي بمن قبلنا، ويقتدي بنا من بعدنا.
ولذلك لما سئل وهب بن منبه عن صفة المسلم قال رحمه الله: يقتدي بمن قبله، وهو إمام لمن بعده.
يعني: يهدي من بعده.
يقول الشاعر: نحن في ذي الحياة ركب صفاء يصل اللاحقين بالماضينا قد هدانا السبيل من سبقونا وعلينا هداية الآتينا يقول الغزالي رحمه الله تعالى: اعلم أن كل قاعد في بيته أينما كان فليس خالياً في هذا الزمان عن منكر.
يعني أن الذي يقعد في بيته ولا يخرج للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لن يسلم من العقوبة، ولن يسلم من الإثم.
يقول: من حيث التقاعد عن إرشاد الناس، وتعليمهم، وحملهم على المعروف، فأكثر الناس جاهلون بالشرع في شروط الصلاة في البلاد، فكيف في القرى والبوادي؟! يعني أن الذين في المدن هم أهل الحواضر، ومع هذا تجد عندهم الجهل بالصلاة، فكيف بأهل البوادي والصحراء والقرى؟! ومنهم الأعراب والأكراد والترك وسائر أصناف الخلق.
يقول الغزالي رحمه الله: وواجب أن يكون في كل مسجد ومحلة من البلد فقيه يعلم الناس دينهم، وكذا في كل قرية، وواجب على كل فقيه فرغ من فرض عينه، وتفرغ لفرض الكفاية أن يخرج إلى ما يجاور بلده من أهل الوادي ومن العرب والأكراد وغيرهم، ويعلمهم دينهم وفرائض شرعهم.
وهذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى يفسر قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر:1 - 2]، فيقول رحمه الله: فواجب على الأمة أن يبلغوا ما أنزل إليه، وينذروا كما أنذر.
يعني: أن هذا الخطاب للرسول عليه الصلاة والسلام ولأمته من بعده؛ لأن الأمة تقوم مقامه في إنذار الناس، كما قال الله تعالى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:122]، والجن بمجرد أن سمعوا القرآن ولوا إلى قومهم منذرين.
وهذا تلميذه الإمام المحقق ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى يقول: وتبليغ سنته صلى الله عليه وسلم إلى الأمة أفضل من تبليغ السهام إلى نحور العدو؛ لأن تبليغ السهام يفعله كثير من الناس، وأما تبليغ السنن فلا يقوم به إلا ورثة الأنبياء وخلفاؤهم في أممهم، جعلنا الله تعالى منهم بمنه وكرمه.
وأما الآن في هذا الزمان فلا يوجد تبليغ السهام إلى نحور العدو، ولا تبليغ سنن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والله المستعان.
فعالي الهمة دائماً يطلب ويبذل أقصى وسعه لنيل الكمال الممكن، أي: أقصى ما تصل إليه طاقته من الكمال، فمن أراد المنزلة العليا من الجنة فعليه أن يكون في المنزلة القصوى في هذه الحياة الدنيا، واحدة بواحدة، ولكل سلعة ثمن.
قال الشاعر: إذا ما علا المرء رام العلاء ويطمع بالدون من كان دونا يعني: ما دمت تريد منزلة عليا في الآخرة فلابد من أن تتبوأ منزلة عليا في الدنيا، والمنزلة التي في الدنيا ليس أن تكون وزيراً، ولا أن تكون تاجراً، ولا أن تكون مليونيراً، بل أعلى منزلة وأشرف وظيفة على الإطلاق يمكن أن يرثها إنسان في هذه الدنيا هي وظيفة الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى؛ لأن هذه وظيفة الأنبياء، فلا شك في أنها أشرف وظيفة يقوم بها الإنسان على وجه الأرض؛ لأنها وراثة وظائف النبوة التي لا أشرف منها إلا منزلة النبوة نفسها.
وهذا الإمام أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله تعالى ينادي كل مسلم من بعده فيقول رحمه الله تعالى: ألست تبغي القرب منه -أي: من الله سبحانه وتعالى-؟! فاشتغل بدلالة عباده عليه، فهي حالات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، أما علمت أنهم آثروا تعليم الخلق على خلوات التعبد؛ لعلمهم أن ذلك آثر عند حبيبهم سبحانه وتعالى؟! ثم قال: وهل كان شغل الأنبياء إلا معاناة الخلق وحثهم على الخير ونهيهم عن الشر؟! ثم يقارن الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى بين الشجعان الذين يخالطون الناس ويدعونهم إلى الخير ويصبرون على أذيتهم، وبين المتخاذلين المعتذرين القاعدين عن الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، فيقول الإمام ابن الجوزي: الزهاد -يعني المعتزلين- في مقام الخفافيش -أي: اعتزلوا في المكان المظلم كالخفافيش-، قد دفنوا أنفسهم بالعزلة عن نفع الناس، وهي حالة حسنة إذا لم تمنع من خير، من جماعة، واتباع جنازة، وعيادة مريض، إلا أنها حالة الجبناء، فأما الشجعان فهم يتعلمون ويعملون، وهذه مقامات الأنبياء عليهم السلام.
وكم يتفطر قلب المرء إذا رأى الإخوة ينزوون، خاصة من كان منهم من حفاظ القرآن الذين فتح الله عليهم، فحين نريد أن نحفظ القرآن نجد الانزواء والسلبية والهروب من المسئولية في خدمة القرآن الذي هو أشرف العبادات، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه)، فإذا كان كل واحد عنده طاقة في خدمة كتاب الله سبحانه وتعالى فعليه أن يبذلها، فهل كانت تنتشر الأمية بالقرآن الكريم والتقصير في حقه على هذا النحو الموجود؟!
صلى الله عليه وسلم لا، لهذا نحن نحتاج إلى مراجعة أنفسنا، فنحن محتاجون إلى التزام من جديد، والساحة محتاجة الآن إلى صحوة، والتزامنا يحتاج إلى التزام، وتوبتنا تحتاج إلى توبة؛ لأن أوضاعنا لا ترضي الله سبحانه وتعالى في كثير منها، فالله المستعان.
يقول: الزهاد في مقام الخفافيش، قد دفنوا أنفسهم بالعزلة عن نفع الناس، وهي حالة حسنة، بشرط أنها لا تمنع من الخير، وذلك بأن يحضر الجماعة، ويتبع الجنائز، ويعود المرضى، لكن حالة العزلة -حتى مع هذه العبادات- حياة الجبناء، أما الشجعان فهم يتعلمون ويعملون، وهذه مقامات الأنبياء عليهم السلام.
وهذا الشيخ الداعية القدوة عبد القادر الكيلاني رحمه الله تعالى كان رجلاً قد تكلم كثيراً، وصاح بأهل العراق صيحات بليغة رفيعة المعنى والمبنى، ويلتقط لنا أحد تلامذته من تلك الصيحات كلمات ندونها سريعاً، وكان الإمام الكيلاني يخطب خطبه الأسبوعية سنة (545هـ)، فأودع هذه النصائح في كتابه (الفتح الرباني والفيض الرحماني).
يقول الشيخ عبد القادر رحمه الله: المتزهد المبتدئ في زهده يهرب من الخلق، والزاهد الكامل في زهده لا يبالي بهم، ولا يهرب منهم، بل يطلبهم.
أي أن الشخص الذي كمل في زهده وحقق معنى الزهد الصحيح لا يهرب من الخلق، بل هو الذي يطارد الخلق ويجري وراءهم كي ينتشلهم، وكي ينقذهم، وكي يدعوهم إلى الله سبحانه وتعالى.
يقول: بل يطلبهم؛ لأنه يصير إذا حقق الزهد عارفاً بالله عز وجل، ومن عرف الله لا يهرب من شيء، ولا يخاف من شيء سواه.
فالمبتدئ يهرب من الفساق والعصاة؛ لأنه ضعيف يخشى أن يتأثر بهم، والمنتهي يطلبهم؛ لأن الفاسق ضالة الداعية؛ لأن الداعية إذا ظل يدعو بين جماعات الصالحين فهذا تحصيل الحاصل، لكن الداعية إلى الحق تكون ضالته هي الفاسق غير المستقيم؛ لأنه يريد أن يضمه إلى عباد الله سبحانه وتعالى، وكيف لا يطلبهم وكل دوائهم عنده؟! ولهذا قال بعضهم رحمة الله عليه: لا يضحك في وجه الفاسق إلا العارف.
يعني: لا يضحك في وجه الفاسق تألفاً وتأليفاً له في أثناء دعوته إلى الله إلا العارف الذي كمل في عرفانه.
فمن كملت معرفته بالله عز وجل صار دالاً عليه، أي أن هذا الشخص الذي كملت معرفته يصبح مثل الشبكة يصطاد بها الخلق من بحر الدنيا، ويعطى القوة حتى يهزم إبليس وجنده ويأخذ الخلق من أيدهم.
يقول: يا من اعتزل بزهده مع جهله! تقدم واسمع ما أقول، يا زهاد الأرض! تقدموا، خربوا صوامعكم، واقربوا مني، قد قعدتم في خلواتكم من غير أصل، ما وقعتم بشيء، تقدموا.
هذه صيحة من صيحات الشيخ: عبد القادر الكيلاني رحمه الله تعالى، وكان يقول هذا الكلام وهو في سن الشيخوخة رحمه الله.
وبعض المعاصرين من الدعاة -وهو الأستاذ: محمد أحمد الراشد حفظه الله- يقول: لا ينبغي للداعية أن يبتئس إذا لم يجد فضل وقت لقيام الليل يومياً.
يعني: إن كان بسبب اشتغاله بالدعوة لا يستطيع المواظبة يومياً على قيام الليل، أو أنه بسبب اشتغاله بالدعوة يقل عدد ختماته للقرآن الكريم فإن ما هو فيه من الدعوة وتعليم الناس وتربية الشباب خير وأجزل أجراً، وقدوته في ذلك ورائده أئمة الدعاة من السلف الصالح الذين كانوا يسيحون لنشر الدعوة وتبليغها، ويبادئون الناس بالكلام، ويحتكون بهم احتكاكاً هادفاً، ولا ينتظرون مجيء الناس إليهم ليسألوهم.
وانظر إلى خالد بن الوليد رضي الله عنه لما أمَّ الناس يوماً، فانتقى في الصلاة من مواضع متفرقة من القرآن الكريم، ثم اعتذر بعدما صلى بهم وقال: لقد شغلني الجهاد عن كثير من قراءة القرآن.
لأنه اشتغل بفتح البلاد وتمصير الأمصار والدعوة إلى الإسلام، فأبواب الخير متعددة.
وكانت رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم تسيح في البوادي تبلغ الأعراب كلمة الإسلام، وتبشر به، ولم يكن ثمة انتظار ورودهم إلى المدينة، أي: لم يكونوا ينتظرون أن يأتوا إلى المدينة، وإنما كانوا يخرجون إليهم، وذلك الأعرابي الذي سأل الرسول صلى الله عليه وآله سلم عن أركان الإسلام، فلما أخبره بها قال: (لا أزيد عليهن ولا أنقص) هذا الأعرابي بدأ حواره مع النبي صلى الله عليه وسلم بأن قال له: (يا محمد! أتانا رسولك فزعم لنا: أنك تزعم أن الله أرسلك…) فإذاً: هناك حائط، وهناك إيجابية، فمن انتظر أن يأتيه الناس فليس بداعية؛ فإن الناس يؤتون وينتقل إليهم، ولو فصلت كلمة هذا الأعرابي لتبين لك كيف فارق هذا الصحابي الداعية المدينة لما أرسله النبي صلى الله عليه وسلم لقوم هذا الرجل، فارق أهله وبيته وأولاده، واجتاز المفاوز والصحراء، وتعرض للمخاطر والحر والبرد ليصل إلى قوم هذا الرجل ويبلغهم دعوة الإسلام، فلا بد من أن نكو