يروي لنا التابعي الكوفي الفقيه النبيل عامر الشعبي رحمه الله تعالى أن رجالاً خرجوا من الكوفة، ونزلوا قريباً يتعبدون، فبلغ ذلك عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فأتاهم، ففرحوا بمجيئه إليهم، فقال لهم: (ما حملكم على ما صنعتم؟) قالوا: أحببنا أن نخرج من جوار الناس نتعبد.
مع أن تلك المرحلة كان المجتمع فيها مجتمعاً إسلامياً صرفاً، ومع ذلك آثروا الخروج إلى الخلوة للتعبد، فقالوا: أحببنا أن نخرج من جوار الناس نتعبد.
فقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (لو أن الناس فعلوا مثل ما فعلتم فمن كان يقاتل العدو؟! وما أنا ببارح حتى ترجعوا) أي: حتى يرجعوا معه رضي الله عنه.
وكان الإمام أحمد إذا بلغه عن شخص صلاح أو زهد أو قيام بحق أو اتباع للأمر سأل عنه، وأحب أن يجري بينه وبينه معرفة، وأحب أن يعرف أحواله، والإمام أحمد لم يكن بالمنعزل المتواري الهارب من الناس.
فالداعية يفتش عن الناس، ويبحث عنهم، ويسأل عن أخبارهم، ويرحل للقائهم، ويزورهم في مجالسهم ومنتدياتهم، ومن انتظر مجيء الناس إليه في مسجده أو بيته فإن الأيام تبقيه وحيداً، ويتعلم فن التثاؤب.
وقد قيل في التعريف بشيخ من شيوخ البخاري والترمذي وهو موسى بن حزام رحمه الله: إنه كان ثقة صالحاً، لكنه كان في أول أمره ينتحل الإرجاء -أي: بدعة الإرجاء- ثم أعانه الله تعالى بـ أحمد بن حنبل فانتحل السنة، وذب عنها، وقمع من خالفها، مع لزوم الدين حتى مات.
ولو مرت هذه العبارة دون أن نحللها فلن نستفيد منها الفائدة المرجوة، لكن إذا تأملنا في هذه العبارة فسنجد أن هذا الانتقال لا يكون وليد عشية وضحاها؛ لأن مثل هذا الرجل كان متعمقاً في بدعة الإرجاء منتحلاً إياها ذاباً عنها، ولا شك في أنه حصلت له جلسات متعددة من الإمام أحمد ليحاوره ويهديه، ويبين له، ويزيل عنه الشبه، ويناقشه إلحاحاً في دعوته، فكان أن خرج هذا الرجل الإمام الذي لم يكتف بانتحال السنة وتصحيح عقيدته، ولكن أصبح يدافع عن السنة، وكان سيفاً يقمع البدع وأهلها.