والناس يتفاوتون تفاوتاً عظيماً؛ حسب حظهم من الهمة، يقول الله تعالى: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} [الليل:4]، فالهمة هي رزق من الله عز وجل، فـ {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} [الرعد:26]، ومن حكمته سبحانه وتعالى أن فاضل بين خلقه في قواهم العملية، كما فاضل بينهم في قواهم العلمية، يقول المتنبي: على قدر أهل العزم تأتي العزائم وتأتي على قدر الكرام المكارم وتعظم في عين الصغير صغارها وتصغر في عين العظيم العظائم اجتمع عبد الله بن عمر وعروة بن الزبير ومصعب بن الزبير وعبد الملك بن مروان بفناء الكعبة، فقال لهم مصعب: تمنوا، فقالوا: ابدأ أنت، فقال مصعب بن الزبير: أتمنى ولاية العراق، وتزوج سكينة بنت الحسين وعائشة بنت طلحة بن عبيد الله.
فنال ذلك، وأصدق كل واحدة خمسمائة ألف درهم، وجهزها بمثلها، وتمنى عروة بن الزبير الفقه -أي: أنه سأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقه الفقه- وأن يحمل عنه الحديث.
فنال ذلك، وتمنى عبد الملك الخلافة فنالها، وتمنى عبد الله بن عمر الجنة رضي الله تعالى عنه وعن أبيه.
فانظر إلى الهمة كيف تتفاوت، ولعلها كانت -والله أعلم- ساعة إجابة، فكل من تمنى نال ما تمنى، فـ مصعب طلب الإمارة والزوجتين، مع صعوبة تحصيل زواج سكينة بنت الحسين وعائشة بنت طلحة، كما هو معروف، لكن مع ذلك نالهما، وعروة طلب الفقه والحديث، فآتاه الله ذلك، وعبد الملك طلب الخلافة فنالها، وعبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنه طلب الجنة، ولعله قد نالها.
فهذا يدل على تفاوت الهمم في الناس؛ فمن الناس من ينشط للسهر في سماع سمر، حتى لو كان سمراً حلالاً؛ ليتحدث مع أصدقائه ومجالسيه، وينشط لهذا، وتأتيه همة، وما يشتكي التثاؤب ولا النوم ولا غير ذلك، وبعض الناس عنده قوة وتصميم في الشر، فيسهر إلى الواحدة أو الثالثة صباحاً أمام الأفلام والفيديو والمسرحيات وهذه الأشياء، فانظر كيف واقع الناس يصدق قوله تعالى: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} [الليل:4].
ومنهم من يحفظ بعض القرآن، ثم يتوقف، ولا يستمر إلى التمام، ومنهم من يعرف الفقه، ومنهم قنوع بصلاة ركعتين في الليل، ومنهم من يطلب معالي الأمور دون أن تكون له إرادة وسعي في تحقيقها، ومن كان هذا حاله فهو مغتر بالأماني الكاذبة، قال الشاعر: وما نيل المطالب بالتمني ولكن تؤخذ الدنيا غلاباً وما استعصى على قوم منال إذا الإقدام كان لهم ركاباً ولو علت بهم الهمم لجدت في تحصيل كل الفضائل، ونبت عن النقص، فاستخدمت البدن، كما قال الشاعر: ولكل جسم في النحول بلية وبلاء جسمي من تفاوت همتي أي: أنه كان نحيلاً، فيعلل سر هذا النحول فيقول: ولكل جسم في النحول بلية أي: ممكن أن الإنسان يكون هزيلاً بسبب مرض أو بسبب سوء تغذية أو غير ذلك من الأسباب، ويمكن أن يكون بسبب همته العالية التي تستخدم بدنه وترهقه في سبيل تحصيل مطالبه، ولذا قال: وبلاء جسمي من تفاوت همتي يعني: من علو همتي.
وقال المتنبي: وإذا كانت النفوس كباراً تعبت في مرادها الأجسام وآخر يقول: وقائلة لم غيرتك الهموم وأمرك ممتثل في الأمم؟ فقلت ذريني على غصتي فإن الهموم بقدر الهمم ولما ولي أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى الخلافة خيَّر امرأته فاطمة بين أن تقيم معه على شرط أنه لا فراغ له إليها، وبين أن تلحق بأهلها، فبكت وبكت جواريها لبكائها، فسمعت ضجة في داره من شدة البكاء، ثم اختارت رحمها الله تعالى مقامها معه على كل حال.
وقال رجل لـ عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى لما ولي الخلافة: تفرغ لنا يا أمير المؤمنين! فأجابه قائلاً: قد جاء شغل شاغل وعدلت عن طرق السلامه ذهب الفراغ فلا فرا غ لنا إلى يوم القيامه وهذا الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله يقول: الجسم تذيبه حقوق الخدمة والقلب عذابه علو الهمة والعمر بذاك ينقضي في تعب والراحة ماتت فعليها الرحمة