وقد طبق السلف الصالح رضي الله تعالى عنهم هذه المعاني التي تعلموها منه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فعن عبد الكريم بن أبي أمية قال: لأن أرد رجلاً عن رأي سيئ أحب إليّ من اعتكاف شهر.
فقوله: (لأن أرد رجلاً عن رأي سيئ) يعني: بأن أجلس معه، وأناقشه، وأبين له الحق، وأدفع عنه الشبهات.
فهذه عبادة في نظره أعظم من أن يعتكف شهراً كاملاً ويتقرب إلى الله سبحانه وتعالى بالاعتكاف، وهذا هو الفقه الدقيق بعينه؛ لأن هذا نفع متعدٍ إلى الآخرين.
وهذه فاطمة بنت عبد الملك بن مروان تصف زوجها أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى فتقول: كان قد فرغ للمسلمين نفسه، ولأمورهم ذهنه، فكان إذا أمسى مساءً لم يفرغ فيه من حوائج يومه وصل يومه بليلته.
أي أنه كان إذا دخل عليه الليل ولم يكف النهار لقضاء حاجات الناس يصل الليل بالنهار سهراً في قضاء حاجات المسلمين.
وقال أبو عثمان شيخ البخاري رحمه الله تعالى: ما سألني أحد حاجة إلا قمت له بنفسي، فإن تم وإلا قمت له بمالي.
فانظر كيف طبق المسلمون هذه القيم وهذه المفاهيم، ومما يؤسف له الآن أن أغلب الناس الذين يكون لهم نوع من الوجاهة في المرافق والمصالح والهيئات ونحو هذه الأشياء إذا جاء إليهم شخص يريد أن يقضي حاجة، يسأله الذي سيقضيها: عمّا سيدفع من الرشوة أو الهدايا أو المال السحت! فيأخذه ظلماً وعدواناً؛ لأن واجبه أن يفرج كربة المسلم ابتغاء ثواب الله، وابتغاء ما عند الله حتى يفرج الله كربته يوم القيامة، لكن لا تكاد تجد إنساناً في محنة ويبحث عن صاحب وجاهة أو صاحب سلطة كي يفرج كربته إلا ويكون السؤال أولاً عن المبلغ الذي سيدفعه أو الرشوة التي سيدفعها ولا حول ولا قوة إلا بالله! وقد عمت الرشا بشكل لا يتصور الإنسان معه أن هؤلاء الذين ينتسبون إلى الإسلام يؤمنون بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن الله الراشي والمرتشي والرائش) واللعن: الطرد من رحمة الله سبحانه وتعالى، ومع ذلك صارت كأنها حق مقنن.
والذي يأتي بالواسطة أو يأتي بالرشوة أو بالهدية هو الذي تقضى حاجته، أما من لا يبذل فإنه يحرم من قضاء حاجته، وقد يكون أشد حاجة من غيره، ولذلك يقول بعض الشعراء في مثل هذا المعنى في معترك رجل رفض أن يدفع الرشا فعزلوه: عزلوك لما قلت ما أعطي وولوا من بذل أو ما علمت بأن (ما) حرف يكف عن العمل فـ (ما) إذا التحقت بإن وأخواتها فإنها تكفها عن العمل، هذا كلام أصحاب النحو والإعراب، فهو يلغز بهذا المعنى في هذا الموطن، ويقول: إن كلمة (ما) هي السبب في تعطيلك، كما تعطل (ما) إن وأخواتها.
وبالمناسبة لا أنصح أحداً أبداً حينما يقال له: من واسطتك؟ أن يقول: الله سبحانه وتعالى.
لأن الله سبحانه وتعالى يتوسل إليه ولا يتوسل به كواسطة، فهؤلاء الذين يسألون هذه الأسئلة أو يأخذون الرشا ولا يتقون الله إذا قلت لأحدهم: (الله) فإنه ينطق أحياناً بكلمة يكفر بها، فأنت مطالب إذا كنت ستذكر إنساناً بالله وغلب على ظنك أنك إذا ذكرته بالله يسب أو يصدر منه ما يكفر به فحينئذٍ لا تذكره بالله، وإذا كان هو في حالة من الغضب وهو معروف بالسفاهة وضعف الدين ورقة العقل فلا تقل له: اتق الله.
وإذا كنت تعلم أن من خلقه أنه يسب الله أو يسب الدين فلا تذكره بالله في هذه الحالة؛ لأن هذا من باب سد الذرائع إلى هذا الكفر العظيم، فلذلك إذا كنت تعلم أو يغلب على ظنك أن هذا الرجل لا يتقي الله فإذا قال لك: من واسطتك؟ فلا تقل: الله.
لأنك تعرف الجواب الذي يصدر عن كثير من الناس -والعياذ بالله- ويخرجون به من الإسلام، فلا لا تفتح له ذريعة إلى الكفر.
كي لا ينطق بالكلام الخطير الذي ينطق به هؤلاء السفهاء.
فالشاهد أن هذه هي أخلاق الإسلام، وهذا هو روح الإسلام الذي يربط جميع المسلمين، فالإنسان أحياناً إذا كان له وجاهة أو يستطيع أن يعين أخاه -سواءٌ أكان مديراً أم صاحب هيئة، أم صاحب مال، أم نحو ذلك- فعليه أن يزكي عن هذه الوجاهة وعن هذا المال وعن هذه النعمة التي خوله الله إياها بأن يقضي حاجات الناس ما دامت ليست في معصية، ولا في ظلم لأحد، ولا في تضييع فرص يستحقها من هو أولى منه، فيجب عليه أن يقضي حاجات الناس، فمثلاً: إذا جاء رجل يبحث عن عمل، فمعناه أنه يتحرى الحلال، ويريد فرصة عمل لكي يكسب من حلال، فإذا أتاك كي تعينه على البحث عن فرصة عمل فواجبك وحق أخيك المسلم عليك أن تبذل كل ما تستطيع من إمكانياتك حتى تقضي حاجته.
فالشاهد أننا مطالبون بأن نذكر كل من ينتسب للإسلام بهذا الكلام؛ كي تخف هذه المحنة التي شاعت وعمت وطمت، حتى صار أولئك المرتشون مثل مكينة البيبسي التي إن أعطيت لها المال عملت وأخرجت لك ما تريده وإذا لم تعطها لا تخرج شيئاً والله المستعان.
فعلى أي الأحوال يجب أن يتواصى الناس بقضاء حاجات بعضهم بدون مقابل؛ فإن الرسول عليه الصلاة والسلام حذرنا من قبول أمثال هذه الهدايا، فإنه عليه الصلاة والسلام قال: (من شفع لأخيه شفاعة فأهدى له هدية فقبلها فقد أتى باباً عظيماً من أبواب الربا)، فإذا كنت قد شفعت لرجل وأراد بعد ذلك أن يعطيك هدية فإذا قبلتها فقد أتيت باباً عظيماً من أبواب الربا، مع أنك لم تطلب منه، لكن إذا كان بينكما أخوة سابقة، والعادة جرت بينكما بالتهادي فلا حرج في قبول الهدية؛ لأنها عادة جارية، لكن إذا لم تحصل على الهدية إلا بعدما سعيت له في هذا الأمر، ولم تكن تجري العادة بالتهادي بينكما فهذا سحت وربا لا يجوز لك أن تأخذه.
يقول شيخ البخاري أبو عثمان رحمه الله تعالى: ما سألني أحد حاجة إلا قمت له بنفسي، فإن تم وإلا قمت له بمالي، فإن تم وإلا استعنا له بالإخوان، فإن تم وإلا استعنت بالسلطان.