تأمل كيف تعامل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مع ذلك الرجل الأعرابي الذي أتى وبال في المسجد، فأراد الصحابة أن يقعوا به ويفتكوا به، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزرموه -يعني: لا تقطعوا عليه بوله-.
فتركه حتى فرغ، ثم أمر بذنوب من ماء -أو سجل من ماء- فأريق على بول الأعرابي، ثم قال للصحابة رضي الله تعالى عنهم: إنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين)، فأعجب ذلك الأعرابي بمسلك النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم معه، وعبر عن ذلك الإعجاب بأن دعا الله سبحانه وتعالى، فقال: اللهم! ارحمني ومحمداً، ولا ترحم معنا أحداً! فأنكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: (لقد حجرت واسعاً)، ولا شك في أن هذا من الاهتمام بأمر الأمة.
ومن مظاهر هذا الاهتمام الذي علمنا إياه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قوله: (من استغفر للمؤمنين والمؤمنات كتب الله له بكل مؤمن ومؤمنة حسنة)، وهذا في الحقيقة من المطالب العالية التي لا يفطن لها كثير من الناس، فأحدهم يظن أنه يدعو لنفسه ولمن هم من خاصته، كإخوانه أو أحبابه، ويغفل عن الاهتمام بالدعاء لعموم المسلمين، فهذا من التقصير، وهذا من ضعف الهمة؛ لأنك إذا دعوت لعموم المسلمين تنال هذا الثواب العظيم الذي قال عنه عليه الصلاة والسلام: (من استغفر للمؤمنين والمؤمنات كتب الله له بكل مؤمن ومؤمنة حسنة)، فلا يزهد في هذا الثواب العظيم إلا من لم تصعد همته إلى نيل حسنات بعدد ملايين المسلمين المأسورين في أقطار الأرض.
وقد ذكر صلى الله عليه وعلى آله وسلم بعض صفات أهل الجنة، كما في الحديث الذي رواه مسلم، وكان مما قال: (ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم)، فمن صفات أهل الجنة أن الواحد منهم رحيم رقيق القلب، فقلبه رقيق، وممتلئ بالرحمة لمن يحبهم ويحبونه، وليس لإخوانه والمقربين إليه فحسب، وإنما يرحم الناس كافة، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يضع الله رحمته إلا على رحيم.
قالوا: كلنا يرحم يا رسول الله! قال: ليس برحمة أحدكم صاحبه، ولكن يرحم الناس كافة)، فقلبه كبير يتسع لكل إخوانه في الإيمان.
فكل هذه المعاني -بلا شك- تغنينا عن الحديث الضعيف الذي يلهج به كثير من الناس، وهو ما ينسبونه إلى النبي صلى الله عليه وسلم (من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم) والمعنى صحيح، وترشد إليه هذه النصوص التي نذكرها، لكن من حيث السند لم يصح هذا الحديث، وتأمل هذا المعنى الذي عبر عنه الشاعر أيضاً بقوله: فلا هطلت عليّ ولا بأرضي سحائب ليس تنتظم البلاد فيدعو الله سبحانه وتعالى بأنه إذا كانت السحابة تنزل الماء فقط على أرضه، ويحرم منها سائر إخوانه المسلمين أن لا تأتي هذه السحابة، فيسأل الله أن ينزل المطر على أرضه، ويعم إخوانه المسلمين، وإن كان سينزل عليه هو وحده فهو لا يريده.
فالداعية إلى الله سبحانه وتعالى الكبير الهمة يقدر تبعات هذا المقام الرفيع، فهو يظمأ حيث يروى الناس، ويسهر حيث ينامون، ويجوع حيث يشبعون، ويتعب حيث يستريحون، ويقدم حيث يحجمون.
عن علي رضي الله تعالى عنه قال: (كنا إذا احمر البأس ولقي القوم القوم -يعني: في القتال- اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم) يعني: حينما يشتد القتال ويشتد الصدام مع الكفار إلى أصعب ما يكون وأشد ما يكون كان الصحابة رضي الله عنهم من أراد منهم أن يتقي يحتمي برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لشدة بأسه على الكفار، وشدة شجاعته في الجهاد، وإقدامه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولذا قال: (فما يكون منا أحد أدنى من القوم منه)، أي: لا يكون أحد من الصحابة أقرب إلى الأعداء يبارزهم من رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وعن البراء رضي الله تعالى عنه قال: (كنا -والله! - إذا احمر البأس نتقي به صلى الله عليه وسلم، وإن الشجاع منا للذي يحاذي به صلى الله عليه وسلم).
وعن أنس رضي الله تعالى عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس، وأجود الناس، وأشجع الناس، ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة -يعني: سمعوا صوتاً في الليل فخافوا أن يكون العدو سيهجم عليهم في المدينة- فانطلق الناس قبل الصوت، فاستقبلهم النبي صلى الله عليه وسلم)، يعني أنهم ما إن سمعوا الصوت حتى تجمعوا، وأرادوا أن يتجهوا قبل الصوت، ففوجئوا بأن النبي عليه الصلاة والسلام كان أسرع الناس خروجاً ليبحث عن سر هذا الفزع وهذا الصوت الذي صدر، فإلى أن تحركوا هم وجدوه قد ذهب بسرعة ورجع قبلهم، وذلك قبل أن يتحركوا هم، فطمأنهم أنه لم يجد شيئاً ولم يجد بأساً، ولذا يقول أنس رضي الله عنه: (كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس، وأجود الناس، وأشجع الناس، ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة، فانطلق الناس قبل الصوت، فاستقبلهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقول: لن تراعوا.
-وهذه كلمة تقال عند تسكين الروع تأنيساً، وإظهاراً للرفق بالمخاطب-، وهو على فرس لـ أبي طلحة عري ما عليه سرج - أي أنه قاد فرس أبي طلحة ولم يكن عليه سرج ولا شيء- في عنقه سيف، فقال: لقد وجدته بحراً.
أو: إنه لبحر) يعني: أن هذا الفرس أسعفني حينما خرجت.
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (ولأن يمشي أحدكم مع أخيه في قضاء حاجته -وأشار بأصبعيه- أفضل من أن يعتكف في مسجدي -أي: مسجد المدينة- هذا شهرين)، فلأن تمشي مع أخيك في قضاء حاجة له أفضل من أن تعتكف في مسجد المدينة شهرين، وهذا -بلا شك- تعظيم لقضاء حاجات المسلم.
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (من نفَّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفَّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة) فهذه الأحاديث كلها بجملتها تنبهنا إلى أن يحمل الإنسان هم إخوانه المسلمين من حوله دون تمييز.