ومن خصائص حمل هم الأمة أن لا يكون الإنسان أنانياً أو متمركزاً ومتمحوراً حول نفسه فقط، بل يمتد نفعه وبركته إلى من حوله حيث كان، وهذا معنى قوله تعالى في وصف المسيح عليه السلام: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ} [مريم:31] أي: حيثما كان ينتفع الناس به، وينتفع المحيطون به.
ومن ذلك قول حذيفة رضي الله تعالى عنه: (كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه سلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني) إلى آخر الحديث، رواه البخاري.
فلو أنك راجعت سياق حديث حذيفة رضي الله تعالى عنه لرأيت أن سياق الحديث يشير إلى حرص حذيفة رضي الله تعالى عنه على تعميم الانتفاع بالإرشاد النبوي في زمن الفتنة إلى جميع المسلمين من بعده؛ لأن الظاهر من سياق الحديث أن الرسول عليه الصلاة والسلام يخبره عن أشياء ستحصل في المستقبل، حتى إنه لا يبقى للمسلمين لا جماعة ولا إمام، وهذا الأمر لم يحصل حتى الآن؛ لأننا لم نصل إلى مرحلة لا جماعة فيها ولا إمام، وإنما توجد الجماعة، وهي جماعة أهل السنة والجماعة الذين يلتزمون المنهج الصحيح والعقيدة الصحيحة، وهم متفرقون في شتى بقاع الأرض، لكن لا توجد الإمامة، فالكيان السياسي أو الخلافة الإسلامية غير قائمة الآن، لكن توجد الجماعة، فالنبي صلى الله عليه وسلم يحدثه عن عصر أسوأ مما نحن عليه الآن؛ لأنه لا جماعة فيه ولا إمام، وتتحقق فيه الغربة بكل معانيها.
فالشاهد أن حذيفة في سؤاله الرسول عليه الصلاة والسلام تجد أنه يحمل همنا نحن وهم كل من يأتي بعده، ولهذا جعل يسأل ويستفصل ويحاور الرسول عليه الصلاة والسلام من أجل أن ينفعنا نحن، فهذا من علو همته في نفع الأمة ودعوتها؛ لأنه قال: (يا رسول الله! إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم.
قلت: فهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم.
وفيه دخن.
قلت: وما دخنه -وانظر إلى الاستفصال؟ - قال: قوم يهدون بغير هديي، ويستنون بغير سنتي، تعرف منهم وتنكر.
قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم، دعاة على أبواب جنهم، من أجابهم إليها قذفوه فيها.
قلت: صفهم لنا.
فقال: هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا.
قلت: فما تأمرني أن أفعل إن أدركني ذلك -يعني: ذلك الزمان-؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم.
قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك).
والشاهد من الحوار أن حذيفة كان يحمل هم المسلمين من بعده، وإن كان الظاهر أنه يسأل لنفسه، لكن هذا الاستفصال والمراجعة إنما هو من أجل أن يهدي من بعده إلى كيفية المخرج من الفتن التي تأتي.