فحديثنا -بإذن الله تعالى- سيكون عن أبرز المجالات التي طبق بها السلف الصالح ومن تبعهم بإحسان ذلك الوصف العظيم، أعني علو الهمة، ونبدأ بعلو همتهم في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى.
فأبرز ما يتميز به كبير الهمة من الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى أنه يحمل هم الأمة، ولا يتمركز ولا يتمحور حول نفسه، ولا حول ذاته، وإنما كل همه هو أن يصلح حال الأمة من حوله، فأعظم ما يهتم به الداعية الكبير الهمة هداية قومه، وبلوغ الجهد في النصح لهم، وإذا أردنا أن نفصل ذلك فلا شك في أنه سيطول فيه الكلام، وحينما نراجع سير الأنبياء -عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام- نرى ذلك جلياً، فلو رجعنا -مثلاً- إلى سورة نوح لرأينا دأب نوح عليه السلام، وكبر همته، وعظم الجهد الذي بذله في سبيل هداية قومه إلى الله سبحانه وتعالى، كما قال الله سبحانه وتعالى عنه: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا} [نوح:5 - 6] إلى آخر الآيات في سورة نوح كما هو معلوم، وكلها تعكس إصرار نوح عليه السلام على الدعوة إلى الله عز وجل، ولا شك في أن نوحاً من أولي العزم من الرسل، ولذا كان منه الإصرار على دعوة قومه، واستخدام كل ما أمكن من الأساليب لأجل هدايتهم، وهذا أمر مطرد في قصص سائر الأنبياء والمرسلين، حتى خاتمهم وسيدهم محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وكذلك لو رجعنا إلى سير أتباع الرسل لرأينا أنهم كانوا قدوة في ذلك، فمثلاً: نرى كيف كان مؤمن آل فرعون، وكيف أنه اجتهد في اللحظة المناسبة وجهر بإيمانه، وجاء لينصر موسى عليه السلام، ومن ذلك قوله -كما حكى الله عنه-: {يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ يَنصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا} [غافر:29].
ومن أتباع الرسل أيضاً الذين كانوا كبيري الهمة: حبيب النجار الذي حمل هم دعوة قومه، وليس فقط في حال حياته، بل حتى بعدما انتقل إلى الآخرة، حيث أبلغ لهم في النصح بعد الاستشهاد، حتى إنه بعد استشهاده وبعدما قتلوه يقول وهو في الجنة: {يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [يس:26 - 27]، فحينما قتلوه وأفضى إلى الجنة وإلى رضوان الله سبحانه وتعالى تمنى لو أنهم اطلعوا على عاقبته، ولا شك في أن حسن العاقبة دليل على استقامة المنهج الذي كان يدعوهم إليه، وأنه كان على الحق، فحينما انتقل إلى دار اليقين ورأى وعاين ما كان يؤمن به غيباً حينئذٍ تمنى، وامتدت أمنيته إلى هداية قومه حتى بعد استشهاده، فقال: {يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ} [يس:26] أي: لو يعلمون الآن بما أنا فيه لعرفوا أني كنت على الحق، ولاتبعوني.
وإذا تأملت قوائم عظماء رجالات الإسلام من الرعيل الأول فمن بعدهم لرأيت أن علو الهمة هو القاسم المشترك بين كل هؤلاء الذين اعتزوا بالإسلام واعتز بهم الإسلام، ووقفوا حياتهم لحراسة الملة وخدمة الأمة، سواءٌ أكانوا علماء، أم دعاة، أم مجددين، أم مجاهدين، أم مربيين، أم عباداً صالحين؛ لأنهم لو لم يتحلوا بعلو الهمة لما كان لهم أي موضع في قوائم العظماء، ولما تربعوا في قلوب أبناء ملتهم، ولا تزينت بذكرهم صحائف التاريخ، ولا جعل الله لهم لسان صدق في الآخرين، وأسوتهم في حمل هم الأمة، بل أسوتهم في كل باب من أبواب الخير هو الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم الذي شارك المسلمين آلامهم، وكان في حاجتهم، حتى حطمه صلى الله عليه وآله وسلم الناس.
فأسوتنا -بلا شك- في كل خير هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال عز وجل: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21] أي: في كل ميادين الخير، وقال تبارك وتعالى: {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف:158]، وقال: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران:31]، فكان صلى الله عليه وسلم يحمل هم من حوله، وليس في الدعوة فحسب، بل في قضاء حاجاتهم والاستجابة لمطالبهم كذلك.
فعن عبد الله بن شقيق قال: (قلت لـ عائشة رضي الله تعالى عنها: أكان نبي الله صلى الله عليه وسلم يصلي جالساً؟ قالت: بعدما حطمه الناس) أي: كان يصلي جالساً بعدما حطمه الناس.
والحقيقة أن هذه الكلمة في قمة التعبير مع وجازتها! يقال: حطم فلاناً أهله.
إذا كبر فيهم، وكأنهم بما حملوه من أثقالهم صيروه شيخاً محطوماً، وكأنه من كثرة مسئوليات أهله وأولاده وذريته قد حطم لكثرة تحمله أعباءهم وأثقالهم، حيث أفنى كل قوته وكل شبابه في خدمتهم وأداء واجبهم حتى صار شيخاً محطوماً، فقولها: (بعدما حطمه الناس) يعني: صلى جالساً من شدة الإعياء والجهد؛ لأنه بذل كل صحته وكل عافيته وكل قوته في قضاء حاجات الناس والصبر على مشقتهم.
وهذا الحديث رواه الإمام أحمد ومسلم وغيرهما.