علو همة عمر بن عبد العزيز رحمه الله وأثر البيئة في ذلك

هناك خطأ -في الحقيقة- نقع فيه كثيراً، وهو أننا دائماً نسلط الضوء على الشخصية التي هي عبارة عن ثمرة، ونغفل النظر إلى البيئة التي أثمرت هذه الثمرة، أو الشجرة التي أثمرت هذه الثمرة، فهل يمكن أن نغفل أثر البيئة ونركز فقط على ثمرة هذه البيئة في رجل مثل أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى؟! ولماذا نركز على عمر بن عبد العزيز دون أن نلفت النظر إلى البيئة؟ فـ عمر بن عبد العزيز أو غيره أو أي واحد من المجددين أو من أئمة الدين يرزق استعدادات فطرية ومواهب وقدرات إبداعية، لكن لابد من وجود البيئة، فالبيئة إما أنها تحطم وتعوق، وإما أنها تنهض بهذه الثمرة وتسقيها، فهل كان يمكن لأمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى أن يمارس دوره في تجديد الدين ويتهيأ له هذا الأمر لولا البيئة الصالحة التي وجهته إلى المعالي، وبذرت بذور الهمة العالية في قلبه منذ طفولته؟! فنحن كثيراً ما نتكلم عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى على أنه هو مجدد القرن الأول، ولا شك في أننا نسلم بأن عمر بن عبد العزيز مجدد القرن الأول، لكننا نقول: إن عمر بن عبد العزيز ما كان له أن يقوم بهذه الحركة التجديدية الواسعة الجوانب لولا وجود عدد كبير من أجلاء التابعين وساداتهم الذين كانوا بالفعل ساعده الأيمن في تنفيذ مشاريعه التجديدية العظيمة، وعلى رأسهم رجاء بن حيوة الذي كان له فضل على الأمة الإسلامية في موقف غير مجرى التاريخ كله؛ لأن رجاء بن حيوة هو الذي أشار على سليمان بن عبد الملك وعند وفاته باستخلاف أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز، وكان لهذه الشورى ولهذه النصيحة الأثر العظيم الذي نشأ عنه تمكين عمر بن عبد العزيز من القيام بدوره التجديدي الفذ.

وحين نتأمل بعض المواقف من طفولة عمر بن عبد العزيز نجد أنه لم ينشأ إلا ببيئة، وأننا مسئولون عن توفير هذه البيئة لأبنائنا، فعن سعيد بن عفير قال: حدثنا يعقوب عن أبيه أن عبد العزيز بن مروان -وهو والد عمر بن عبد العزيز - بعث ابنه عمر إلى المدينة يتأدب بها، وكتب إلى صالح بن كيسان يتعاهده، فكان صالح بن كيسان يلزمه الصلوات، ويراقبه في الصلوات، ويحثه على حضور الصلوات، ويشرف عليه في ذلك، فأبطأ يوماً عن الصلاة -أي: في يوم من الأيام أتى متأخراً عن الصلاة- فقال له صالح بن كيسان رحمه الله: ما حبسك؟ قال: كانت مرجلتي - أي: الخادمة المتخصصة في تصفيف شعره- تسكن شعري.

وبعض الناس أحياناً يرون أن عمر بن عبد العزيز نشأ في بيئة مترفة، فنقول: نعم هي مترفة، لكنها بيئة دينة، وعمر بن عبد العزيز طلب العلم، وعمر بن عبد العزيز لم يصل إلى الإمامة بانقلاب سياسي أو بمجرد القفز إلى مقعد السلطة، وإنما عمر بن عبد العزيز إمام من أئمة الاجتهاد، وصل إلى أعلى مراتب العلم، فمع أنه كان يعيش هذه المعيشة المترفة لكن أمر الدين ما كان عنده فيه مساومة، وقوله: (كانت مرجلتي تسكن شعري) قاله وهو صبي صغير، فقال له صالح بن كيسان: بلغ من تسكين شعرك أن تؤثره على الصلاة! أي: أنت مهتم بتسكين شعرك إلى حد أنه أخرك عن حضور الصلاة! وكتب بذلك إلى والده، فبعث عبد العزيز رسولاً إليه، فما كلمه حتى حلق شعره، أي أن أباه أرسل رسولاً وقال له: لا تكلمه كلمة واحدة حتى تحلق شعره كله، عقوبة له على أنه آثر تسكين شعره على حضور الصلاة في أولها.

فـ عبد العزيز ألقى ولده إلى المدينة لا لكي يتعلم فقط، ولكن لكي يتأدب، ثم كلف واحداً من العلماء الأتقياء أن يشرف عليه وعلى تربيته ويتعهده، ويراقب حضوره في الصلوات، فإذا تخلف مرة ضبطه، وقال: ما حبسك؟ ويرسل إلى أبيه شكوى أنه تأخر عن صلاة بسبب هذا الأمر التافه، فيرسل أبوه هذا الرسول، فما كلمه حتى حلق شعره.

وعن أبي قبيل أن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى بكى وهو غلام صغير، فأرسلت إليه أمه وقالت: ما يبكيك؟ قال: ذكرت الموت، وكان يومئذٍ قد جمع القرآن، فبكت أمه حين بلغها ذلك.

ونقل الزبير بن بكار عن العتبي قال: إن أول ما استبين من عمر بن عبد العزيز أن أباه ولي مصر وهو حديث السن يشك في بلوغه.

يعني أن أول العلامات التي أظهرت أن هذا الشخص غير عادي، وأن عمر بن عبد العزيز شخص ينتظره مستقبل عظيم أنه لما ولي أبوه كان حديث السن يشك في كونه قد بلغ، قال: فأراد إخراجه، فقال: يا أبت! أو غير ذلك لعله أن يكون أنفع لي ولك؟! ترحلني إلى المدينة، فأقعد إلى فقهاء أهلها، وأتأدب بآدابهم.

فوجهه إلى المدينة، فاشتهر بها بالعلم والعقل مع حداثة سنه.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015