ورب أم ذكية محبة للعلم أو أب عالم مشهور بعلمه كان سبباً في تيسير السبيل إلى العلم ومجالسة العلماء، ولا شك في أن هذا يكون له أثر بليغ في تنمية نبوغ الأبناء.
فهذا الزبير بن العوام رضي الله تعالى عنه فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عمر يعدل به ألفاً من الرجال، ولما أرسله لنجدة عمرو بن العاص قال: (أرسلت إليك أربعة آلاف جندي، ومعهم أربعة كل منهم بألف) وذكر منهم: الزبير بن العوام رضي الله تعالى عنه.
وإذا تأملنا البيئة التي نشأ فيها الزبير بن العوام نجد أن أمه هي صفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهي أخت أسد الله حمزة بن عبد المطلب، وهؤلاء الكملة العظماء عبد الله والمنذر وعروة أبناء الزبير كلهم ثمرات أمهم ذات النطاقين أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنهما.
وهذا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه تربى على يد أمه فاطمة بنت أسد وخديجة بنت خويلد رضي الله تعالى عنهما.
وهذا عبد الله بن جعفر سيد أجواد العرب تعاهدته أمه أسماء بنت عميس رضي الله تعالى عنها.
وهذا أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان رضي الله تعالى عنهما أريب عربي وألمعي، ورث عن أمه هند بنت عتبة همة تجاوزت الثريا، فإن أمة هنداً لما ولد معاوية وكان وليداً بين يديها قال لها بعض الحاضرين: إني أظن أن هذا الغلام سيسود قومه.
فأجابت غاضبة: ثكلته إذاً إن لم يسد إلا قومه.
أي أن الطفل كان وليداً في المهد حديث الولادة، وبدت عليه علامات النجابة، فقال هذا الشخص: إني أظن أن هذا الغلام سيسود قومه.
فقالت: ثكلته إذاً.
أي: موته أحسن إذا كان لا يسود إلا قومه، فإذا كان كذلك فأنا لا أريده ولداً لي.
فتخيل لو كانت أم تعيش بهذا الأمل وتعيش بهذه الطريقة من التفكير كيف سيكون سلوكها مع ولدها؟! لا شك في أنها سترضعه مع اللبن هذه القيم حتى تكبر همته، وتصعد به إلى أرقى ما يمكن الوصول إليه من الهمم، وهذا لا شك فيه.
وإذا نظرنا إلى أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان رضي الله تعالى عنهما نجد أن معاوية كان من أسود العرب، ومن أعظم الناس قدرة على سياسة الأمم، وإمارته في الشام خير شاهد على ذلك.
وهذه الأم نفسها لما نعي إليها ولدها يزيد بن أبي سفيان قال لها بعض المعزين: إنا لنرجو أن يكون في معاوية خلف منه.
قالت: أو مثل معاوية يكون خلفاً من أحد؟! والله لو جمعت العرب من أقطارها ثم رمي به فيها لخرج من أيها شاء.
وكان معاوية رضي الله عنه إذا نوزع بالفخر وجوذب بالمباهاة بالرأي انتسب إلى أمه، وكان يفاخر الناس إذا احتاج أن يفتخر فيصدع أسماع خصومه بقوله: (أنا ابن هند) فخراً بأمه رضي الله تعالى عنها.
وهذا سفيان الثوري الإمام الجليل والعلم الشامخ كان ثمرة أم صالحة غذته بلبانها، وحاطته بكنفها، حتى صار إمام المسلمين وأمير المؤمنين في الحديث، وسفيان الثوري هو الذي قالت له أمه وهو طفل صغير: يا بني! اطلب العلم وأنا أكفيك بمغزلي.
مع أنه كان يتيماً، فكانت تشتغل بالغزل وتنفق عليه حتى يتفرغ لطلب العلم.
وهذا الإمام الثقة الثبت أبو عمرو الأوزاعي نشأ يتيماً في حجر أمه، فتنقلت أمه به من بلد إلى بلد، وربته تربية عجزت الملوك وأبناؤها عنها، حتى استفتي في الفقه وله ثلاث عشرة سنة.
وكذلك فعلت أم الإمام ربيعة بن أبي عبد الرحمن الشهير بـ ربيعة الرأي شيخ الإمام مالك رحمه الله تعالى، فكان ربيعة ثمرة تربية أم فاضلة، حيث أنفقت عليه أمه ثلاثين ألف دينار خلفها زوجها عندها وهي حامل به؛ لأن أمه لما كانت حاملاً به ترك أبوه معها ثلاثين ألف دينار، وخرج للغزو، فغاب في الغزو مدة كبيرة، فلما رجع كان ابنه قد أنفقت أمه عليه كل هذا المال في سبيل أن يطلب العلم الشريف، فلما رجع أبوه من الغزو بعد سنوات طويلة كان ابنه قد استكمل الرجولة، واستكمل -أيضاً- المشيخة، فأتى إلى بيته، فدفع الباب ودخل، فواجهه ابنه وكان قد صار شيخاً عالماً جليلاً وشاباً يافعاً، فقال له: أتدخل على حرمي يا عدو الله؟! لأنه لما رآه ظنه رجلاً أجنبياً دخل الباب واقتحمه، فتشاجر الابن مع أبيه دون أن يعرف أحدهما الآخر، إلى أن اجتمع الناس وازدحموا عليهما، ثم جاء الإمام مالك رحمه الله تعالى وقال له: أيها الشيخ! لك سعة في غير هذه الدار.
أي: إذا كنت محتاجاً لدار فابحث عن دار أخرى، فلك سعة في غير هذه الدار، فقال: هذه داري.
فسمعت أم ربيعة من وراء الحجاب هذا الصوت فقالت: إن هذا هو فروخ زوجي أبو عبد الرحمن.
فتعانق الولد مع أبيه، ثم بعد ذلك لما أتى وقت الصلاة خرج أبوه إلى المسجد، فوجد حلقة كبيرة جداً في المسجد قد تصدرها ابنه الذي رآه آنفاً، فتعجب جداً، واستحيا منه ابنه فأطرق برأسه وأظهر أنه لم يره، فلما رجع إلى البيت قال لها: لقد رفع الله ابني.
فلما سألها عن الدنانير قالت: أيهما أفضل عندك: ثلاثون ألف دينار أم ما صار إليه ولدك من الإمامة والمشيخة في الدين؟ فقال: بل ما صار إليه.
فقالت: فقد أنفقتها كلها عليه.
فالشاهد من هذه القصة أن الذي تولى تربيته هي أمه، حيث انفردت بتربيته، ووجهته إلى طلب العلم.
وكذلك الإمام مالك إمام دار الهجرة رحمه الله تعالى كانت أم تأخذه وهو صبي صغير، وتلبسه العمامة الصغيرة على رأسه، وتلبسه ملابس طلبة العلم، وتحرضه على الذهاب إلى العلماء، وتقول له: اذهب إلى ربيعة فتعلم من أدبه قبل علمه.
ومات والد الإمام الشافعي رحمه الله تعالى وهو جنين أو رضيع، فتولته أمه بعنايتها، وأشرفت عليه بحكمتها، وتنقلت به من غزة إلى مكة مستقر أخواله، فربته بينهم هنالك، ونشأ الإمام الشافعي يتيماً فقيراً، ولم تستطع أمه دفع أجر معلمه، إلا أن المعلم قبل أن يعلمه بدون أجر، فتعهده بالرعاية، وجعل له منزلة خاصة بين التلاميذ؛ لما لمسه فيه من نباهة وسرعة في الحفظ.
يقول الشافعي رحمه الله تعالى: كنت يتيماً في حجر أمي، ولم يكن معها ما تعطي المعلم، وكان المعلم قد رضي أن يعلمني بدون أجر، وأن أخلفه في الدرس إذا غاب.
وهذا إمام المحدثين على الإطلاق الإمام الجليل محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله تعالى مات أبوه إسماعيل وهو صغير، فنشأ يتيماً في حجر أمه، وكانت امرأة عابدة صاحبة كرامات.
والحقيقة أننا لو أردنا التفصيل لوجدنا أن النماذج كثيرة جداً في التاريخ الإسلامي، وهذه النماذج -بلا شك- تبرز لنا دور البيئة في صناعة هؤلاء الأماجد.